18 يونيو 2021
مذكرات سوسيولوجية... احمل قريتك واتبعني
في اللحظات الاستباقية لما قبل الغروب، تتراجع وتيرة الأحداث، كما لو كانت لحظات فاصلة تشي بتوقف الزمن، وتبدأ أصوات صارخة من بعيد يقتفيها السمع سابرا صداها، لعلها بواكير انتزاع النهار من إخفاقات أفعاله نحو فضاءات آماله، وآنئذ يتجلى السكون مؤسسا لشيء واحد.. الغروب ولا شيء غير الغروب.
في عصرنا الرقمي الحالي باتت الفكرة الممجوجة التي يتشدقون بها ليل نهار: "أصبح العالم قرية صغيرة" أشبه ما تكون بأكذوبة كبرى، إثر السقوط الاجتماعي المدوي، مما يستوجب البوح في حميمية ليست فقط حديثا للذكرى ولا ادعاء للحكمة، بل إنها همس الروح، تؤشر لشيزوفرينيا الزمن جراء إخفاقات حصاد الأمة يوم أن فصمت عراها عن الزراعة.
وبالاتكاء على ما سبق طغى غروب المفاهيم القروية جراء سطوة مادية تكاد أن تجتثه ولعلها فرغت من ذلك، بعد أن ردمت بحضورها مجمل أيديولوجيا كبار السن في توصيفاتهم للحقول الممتدة بلونها الأخضر، حينها يطيب الانحياز مستنطقا مكنونات الماضي الجميل، فيبدو الربيع قادرا على تتبع الإحداثيات الروحانية القروية في أعلى منسوبها، ناثرا نفسه هناك على آفاق التلال والسهول، بتحولات تأتي استنساخا للرؤى المأثورة للمهاتما غاندي: "احمل محراثك واتبعني"، ومقولة: "الروح الهندية الحقيقية توجد في قرى الهند" وما يأتي في سياقها من مرثيات القرية في زمن العولمة.
هذا التوهج يميل بغريزته لتزكية النفس لدى الجيل الذي أبدع في مقارنات أزمانه، منصاعاً للعرف الاجتماعي تحت مسمى مخضرم ارتشف جزءا من بركات الماضي وعايش الحاضر، وأبدع في إسقاط ذلك على واقعنا الحاضر، لك أن تعمم خلاصة مفادها أن روح الدولة تتفيأ ظلالها على الدوام منبثقة من بواطن القرى، وفي الذكر الحكيم: "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى".
كثيرون هم أولئك الذين اغترفوا من تابوهات الذاكرة، متقمصين ماضيهم القروي الفطري، تشدهم نبوءات الثلث الأخير من القرن الماضي، وكنت واحداً منهم أتوسد حواجز الدهشة وفضاءات الأزقة، إزاء دولاب الحياة في تلك القرية المسماة بالنزهة تعيش في أزهى صور البساطة والتلقائية إلى أن جاء زمن!
وليته لم يأت، وأي زمان هو ذا الذي يسمونه بزمان العولمة؟ صحيح أنه ما من شيء في هذا العالم يعدل موئل الطفولة، إلا أن الذكريات الجميلة التي تستنسخ الرابط المقدس بين الأنا والجغرافيا، سرعان ما تواجه صداماً مرعباً، وحالما تجد نفسها وجها لوجه أمام تغريبة تحمل مسمى العولمة تسارع منسحبة من مواجهة الزمن الجديد، وما إن يستنطقها واحد من رجالات الرعيل الأول، حتى ينتابك آنئذ شعور غريب بالارتواء من ذلك الفيض، وحتما سيعرج بك إلى فضاءات الصورة المشرقة.
ولك أن ترسم أيقونة التجمعات القروية، التي تشكل الوجه الآخر للأسرة العربية الممتدة في أروع صور التكافل والمودة، ولا ضير إن قمت بتعميم هذا التوصيف على مفردات الأحياء والحارات الشعبية داخل المدن الكبرى.
لم تكن الأمور كما هي عليه الآن، فالتعليم على الرغم من محدوديته، كان يعمل على دفع حركة المجتمع لما هو أفضل ملامساً الجوانب العصية على الإدراك، خلافا للحاضر، الذي ترتب عليه أن غيّرت حركة التعليم، أو بتوصيف أدق نوعية المناهج من معادلة النفوس، إلى حد فرض الشعور بالخصخصة الاجتماعية في أخطر صورها، بانتزاع الطيبة والعفوية والبساطة من أنفس الناس بحجة التطور والتقدم! وإن كان التعليم بريئا مما حصل..
أما الوظيفة الحكومية فعلاوة على كل عيوبها فقد انتزعت أجمل ما في الوجود ألا وهو الحرية، إذ ذاك بات التذكير بكوة الأمل مطلبا، فالاجتماع القروي الأسري بغض النظر عن مكانه يتطوع ساردا الحكايات مسلطا الأضواء على مسار الأحوال المعيشية وتناقل الأخبار القروية حيث لا جريمة ولا نزاعات إلا في حدود الندرة، ولك أن تحصي عدد المراكز الأمنية في أيامنا هذه.
مشهد زراعي لا يغيب أبداً عن الذاكرة قبل بداية الألفية الجديدة التي تظللنا بقرابة ربع قرن من الانكسارات، يومها كانت الحقول تفرض سطوتها على امتدادات الجغرافيا، ويقف مرمى البصر عاجزاً مهما كان حاداً، مفتقدا للقدرة على رؤية لون آخر غير اللون الأخضر، أما ما نراه الآن ويا للسخرية وهذا واقع تجده مكرراً في أقطارنا العربية، إذ ويا للسخرية وبقدرة قادر تمت إزاحة اللون الأخضر، وأصبحنا نشاهد مساكن الطوب في غير موضعها تساندها مشاريع لا حصر لها تحت وهم الصناعة وسطوة نفوذ شركات الإسمنت كلها على حساب مواضع الزراعة، وتناثرت الأيدي العاملة الزراعية ساعية لوظائف لا تغني ولا تسمن من جوع، وأحيلت تقنيات الزراعة للتقاعد، وتم التنظير للزمن الجديد تحت مسميات تشيطن العمل الزراعي.
لا بد أن ندرك أنفسنا بعد أن فرطنا بنعمة الاكتفاء الذاتي في ثالوث الأسرة والعائلة والمجتمع صوب التبعية للآخرين، وفي رحلة السعي لتفسير طلاسم الماضي حين نغادر تلك البقاع الجغرافية متجهين نحو الجبل الكبير الممتد خلف الأفق، وأجمل ما فيه أن الشمس تأتي إلى الشرق منه، حيث الحضور الأكثر تألقاً في ثنائية الشروق والغروب، والتقديس الكامل للأحداث المنزوية في وعاء الذاكرة آنذاك، مع المقت الكامل للتسميات المبهرجة التي تندرج تحت مسميات تحولات القرن الجديدة، وزحزحة الثوابت العتيقة سيراً في طريق التعولم المادي، مما يشي بخراب قادم لفطرية العلاقة بين الأرض والإنسان، وافتقاد حميمية نار الشتاء الدافئة، وزحف متوالية الخراب لتطاول هوامش التعامل الإنساني النبيل، بمؤشراته الدالة على بداية العصف المطيح بنكهة العفوية الإنسانية، ولب التجمعات القروية، واستفحال سطوة المال مهددة النظام الأسري وصلات القربى، فيا الله كم هو الشوق مؤجج النيران لذلك العهد الجميل الذي مضى بحلوه ومرّه، لشهر رمضان الكريم بنكهة السبعينيات يوم كان الاكتفاء القروي الشعبي عنواناً لكل المراحل، حيث البراءة والعذوبة والتراث.
وختاما هنيئاً للمتعولمين عولمتهم، وأنت أيها القروي النبيل: احمل قريتك واتبعني إلى هناك حيث الغاب.
في عصرنا الرقمي الحالي باتت الفكرة الممجوجة التي يتشدقون بها ليل نهار: "أصبح العالم قرية صغيرة" أشبه ما تكون بأكذوبة كبرى، إثر السقوط الاجتماعي المدوي، مما يستوجب البوح في حميمية ليست فقط حديثا للذكرى ولا ادعاء للحكمة، بل إنها همس الروح، تؤشر لشيزوفرينيا الزمن جراء إخفاقات حصاد الأمة يوم أن فصمت عراها عن الزراعة.
وبالاتكاء على ما سبق طغى غروب المفاهيم القروية جراء سطوة مادية تكاد أن تجتثه ولعلها فرغت من ذلك، بعد أن ردمت بحضورها مجمل أيديولوجيا كبار السن في توصيفاتهم للحقول الممتدة بلونها الأخضر، حينها يطيب الانحياز مستنطقا مكنونات الماضي الجميل، فيبدو الربيع قادرا على تتبع الإحداثيات الروحانية القروية في أعلى منسوبها، ناثرا نفسه هناك على آفاق التلال والسهول، بتحولات تأتي استنساخا للرؤى المأثورة للمهاتما غاندي: "احمل محراثك واتبعني"، ومقولة: "الروح الهندية الحقيقية توجد في قرى الهند" وما يأتي في سياقها من مرثيات القرية في زمن العولمة.
هذا التوهج يميل بغريزته لتزكية النفس لدى الجيل الذي أبدع في مقارنات أزمانه، منصاعاً للعرف الاجتماعي تحت مسمى مخضرم ارتشف جزءا من بركات الماضي وعايش الحاضر، وأبدع في إسقاط ذلك على واقعنا الحاضر، لك أن تعمم خلاصة مفادها أن روح الدولة تتفيأ ظلالها على الدوام منبثقة من بواطن القرى، وفي الذكر الحكيم: "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى".
كثيرون هم أولئك الذين اغترفوا من تابوهات الذاكرة، متقمصين ماضيهم القروي الفطري، تشدهم نبوءات الثلث الأخير من القرن الماضي، وكنت واحداً منهم أتوسد حواجز الدهشة وفضاءات الأزقة، إزاء دولاب الحياة في تلك القرية المسماة بالنزهة تعيش في أزهى صور البساطة والتلقائية إلى أن جاء زمن!
وليته لم يأت، وأي زمان هو ذا الذي يسمونه بزمان العولمة؟ صحيح أنه ما من شيء في هذا العالم يعدل موئل الطفولة، إلا أن الذكريات الجميلة التي تستنسخ الرابط المقدس بين الأنا والجغرافيا، سرعان ما تواجه صداماً مرعباً، وحالما تجد نفسها وجها لوجه أمام تغريبة تحمل مسمى العولمة تسارع منسحبة من مواجهة الزمن الجديد، وما إن يستنطقها واحد من رجالات الرعيل الأول، حتى ينتابك آنئذ شعور غريب بالارتواء من ذلك الفيض، وحتما سيعرج بك إلى فضاءات الصورة المشرقة.
ولك أن ترسم أيقونة التجمعات القروية، التي تشكل الوجه الآخر للأسرة العربية الممتدة في أروع صور التكافل والمودة، ولا ضير إن قمت بتعميم هذا التوصيف على مفردات الأحياء والحارات الشعبية داخل المدن الكبرى.
لم تكن الأمور كما هي عليه الآن، فالتعليم على الرغم من محدوديته، كان يعمل على دفع حركة المجتمع لما هو أفضل ملامساً الجوانب العصية على الإدراك، خلافا للحاضر، الذي ترتب عليه أن غيّرت حركة التعليم، أو بتوصيف أدق نوعية المناهج من معادلة النفوس، إلى حد فرض الشعور بالخصخصة الاجتماعية في أخطر صورها، بانتزاع الطيبة والعفوية والبساطة من أنفس الناس بحجة التطور والتقدم! وإن كان التعليم بريئا مما حصل..
أما الوظيفة الحكومية فعلاوة على كل عيوبها فقد انتزعت أجمل ما في الوجود ألا وهو الحرية، إذ ذاك بات التذكير بكوة الأمل مطلبا، فالاجتماع القروي الأسري بغض النظر عن مكانه يتطوع ساردا الحكايات مسلطا الأضواء على مسار الأحوال المعيشية وتناقل الأخبار القروية حيث لا جريمة ولا نزاعات إلا في حدود الندرة، ولك أن تحصي عدد المراكز الأمنية في أيامنا هذه.
مشهد زراعي لا يغيب أبداً عن الذاكرة قبل بداية الألفية الجديدة التي تظللنا بقرابة ربع قرن من الانكسارات، يومها كانت الحقول تفرض سطوتها على امتدادات الجغرافيا، ويقف مرمى البصر عاجزاً مهما كان حاداً، مفتقدا للقدرة على رؤية لون آخر غير اللون الأخضر، أما ما نراه الآن ويا للسخرية وهذا واقع تجده مكرراً في أقطارنا العربية، إذ ويا للسخرية وبقدرة قادر تمت إزاحة اللون الأخضر، وأصبحنا نشاهد مساكن الطوب في غير موضعها تساندها مشاريع لا حصر لها تحت وهم الصناعة وسطوة نفوذ شركات الإسمنت كلها على حساب مواضع الزراعة، وتناثرت الأيدي العاملة الزراعية ساعية لوظائف لا تغني ولا تسمن من جوع، وأحيلت تقنيات الزراعة للتقاعد، وتم التنظير للزمن الجديد تحت مسميات تشيطن العمل الزراعي.
لا بد أن ندرك أنفسنا بعد أن فرطنا بنعمة الاكتفاء الذاتي في ثالوث الأسرة والعائلة والمجتمع صوب التبعية للآخرين، وفي رحلة السعي لتفسير طلاسم الماضي حين نغادر تلك البقاع الجغرافية متجهين نحو الجبل الكبير الممتد خلف الأفق، وأجمل ما فيه أن الشمس تأتي إلى الشرق منه، حيث الحضور الأكثر تألقاً في ثنائية الشروق والغروب، والتقديس الكامل للأحداث المنزوية في وعاء الذاكرة آنذاك، مع المقت الكامل للتسميات المبهرجة التي تندرج تحت مسميات تحولات القرن الجديدة، وزحزحة الثوابت العتيقة سيراً في طريق التعولم المادي، مما يشي بخراب قادم لفطرية العلاقة بين الأرض والإنسان، وافتقاد حميمية نار الشتاء الدافئة، وزحف متوالية الخراب لتطاول هوامش التعامل الإنساني النبيل، بمؤشراته الدالة على بداية العصف المطيح بنكهة العفوية الإنسانية، ولب التجمعات القروية، واستفحال سطوة المال مهددة النظام الأسري وصلات القربى، فيا الله كم هو الشوق مؤجج النيران لذلك العهد الجميل الذي مضى بحلوه ومرّه، لشهر رمضان الكريم بنكهة السبعينيات يوم كان الاكتفاء القروي الشعبي عنواناً لكل المراحل، حيث البراءة والعذوبة والتراث.
وختاما هنيئاً للمتعولمين عولمتهم، وأنت أيها القروي النبيل: احمل قريتك واتبعني إلى هناك حيث الغاب.