إعلامنا العربي بين... أساطير القطيع وطرائق التدجين
في واحدة من روائع مرايا لياسر العظمة: يطرح التساؤل التالي: "متى سيبقى إعلامنا آخر من يعلم فكل أخبارنا الداخلية نأخذها من الخارج، وبعد مرور يومين نسمعها من الداخل!"
دعونا نتخيل الخبر العاجل التالي في فضائية افتراضية: نقلاً عن مراسلها في مدريد ورود أخبار عن قيام عمدة المدينة في ظل جائحة كورونا بتقديم مساعدات عينية ونقدية في مبنى البلدية، تضمن للسائح استلام مبلغ من المال بمجرد أن يلتقي العمدة، وفي حالة كونه من الناطقين بالإنجليزية، فإنه سيمنح مبلغ ألف بيزو ياباني، وبخلاف ذلك فإنه سيضطر آسفاً لحجز هويته الإسبانية، وإلزامه بتقديم ما يثبت حيازته. إلى هنا تنتهي الحكاية.
بالعودة لتفاصيل الخبر ومع التدقيق في ثناياه:
1- هل يوجد عمدة يمنح السائحين مبالغ نقدية بالمجان؟ وما علاقة هذا بالموضوع أﺻﻼً؟
2- ما الرابط بين اللغة ومقدار المبلغ المجاني، ولم هو بالبيزو الياباني؟
3- هل يمتلك السائح هوية إسبانية؟
4- كيف يستطيع تقديم ما يثبت وهو مغترب؟
5- ما مدى الإقناع في نسج وحياكة ذلك الخبر؟
عملت شبكات التلفزة على غسل الأدمغة بموضوعات بالغة في السخف تهدف لصناعة عدو وهمي، عبر تلقين الرأي العام من خلال الإعلام الموجه الذي يحرص على تهدئة خواطر الجماهير
هذا النموذج الإعلامي الملفق يصور بعضاً من جوانب البروباغندا الإعلامية الحكومية في المشرق والعالم العربي تحديداً، وهي المرتبة الثانية في السوء وتكميم الإعلام، وهذا يذكرنا بمقولة الرئيس الأمريكي السابق ترامب في تغريدته الشهيرة التي قال فيها:
الإعلام الصامت هو عدو الشعب! وإن كان يتكلم في معرض آخر، إلا إنه وبالتوازي مع ذلك فإن الكثيرين تنطلي عليهم حيل القنوات الإخبارية بإعلامها المبرمج الموجه الهادف للتلاعب بإدراك الجماهير، وترسيخ التبعية والانقياد في بلطجة إعلامية شعبوية تستهدف الوعي الجمعي.
نماذج على الأساطير الإعلامية:
تأتي أسطوره الأمن والأمان في المقدمة والتي تتمنن على المواطن وتطالبه بالنظر إلى دول الجوار ووجوب أن يحمد الله ليلاً ونهاراً على ما هو فيه، وقريباً منها تأتي أسطورة الوسطية والاعتدال، التي تسوق للغرب تحت مبدأ إياك أعني واسمعي يا جارة، والهدف منها نيل الحظوة والاستحسان، وفي موازاتها تأتي أسطورة مواكبة الغرب وملاحقة التصنيع والتقدم العلمي وتقدم التعليم الجامعي وتضخيم الإنجازات الكروية كما لو كانت نقلات حضارية، والتمنن بتوفير الحياة الفضلى للمواطن رغماً عن كل الظروف، وهي جملة أكاذيب تروج للقائد الرمز قيادة سفينة الأمة وحمايتها في مواجهة الأخطار على تنوعها، ومساندة ذلك بأسطورة اللحاق بموسوعة جينيس للأرقام القياسية.
وفي الإطار النظري تواصل المبررات والذرائع بسذاجة سياسية تضخيم الصغائر وتصغير العظائم وصناعة وقائع تمثيلية، ونشر أخبار تثير العاطفة والنزعة القومية والرياضية بغرض إلهاء الناس، عبر تدفق نهر من الأخبار والمعلومات لا تترك للمتلقي... فرصة التقاط الأنفاس، أو للتفكير في حقائق الأشياء.
فيما يلي جملة من محركات هندسة المجتمع وصياغة التوجهات، والهروب للأمام عبر تلميع الفضاء السيبراني بأدوات الذباب الإلكتروني في تضليله المنهجي المتواصل وأخباره الزائفة، وتوظيفه لروبوتات مختارة تحاكي البشر لإبداء الإعجاب ومشاركة المنشورات والتعليق عليها:
استراتيجية التضليل والإلهاء
إن السعي لتسويغ النهج أمام الجمهور المستهدف يبدأ عادة عبر إعادة تصنيف الأخبار وتقويمها واستخدام تكتيكيات الإثارة والتكرار والغموض في القصص الإخبارية المرتبطة بجدول أولويات الرأس المدبر، واعتماد البرامج الترفيهية والبطولات الرياضية وقس على ذلك بهدف إشغال الفرد عن القضايا الأممية الكبرى.
وهي تلتقي باستراتيجية الخطوة خطوة التي تخاطب الجمهور كما لو كانوا صغاراً بهدف تضليل الرأي العام وتأصيل تحييد العقل ليسهل مخاطبة العاطفة، واللعب على أوتار أخرى حساسة لتجهيل القطيع، وتشجيع الرداءة، وأكبر مثال عليها تحويل المشاعر بتصوير الشجاعة في طلب العدالة والإنصاف وكأنها شغب في حق الحكومات يستوجب الإحساس بالذنب، وهذه جملة من البديهيات يجري فيها قلب الحقائق وادعاء المظلومية وتبني الرؤية الحكومية بهدف ترسيخها في العقل الجمعي للمتلقي وللجمهور.
استراتيجية المبالغة والتضخيم
وهي التي تسلط الأضواء على أحداث هامشية لتجعلها تتصدر الأخبار على حساب أحداث أخرى أكثر أهمية، أو يراد بها تشتيت الانتباه، ومن جملة ذلك الإعلام الشمولي في العديد من الدول دون ضرب أمثلة، والذي يصوغ توجهات الشعب ويجعلها متماثلة!
استراتيجية هندسة الجمهور
إخضاعه للأبواق الإعلامية التي تقنع الناس بأخبار مصطنعة، وتتلاعب بالعقول في عملية التواصل الجماهيري، وتحد من نفوذ دور وسائل الإعلام باعتبارها السلطة الرابعة، لإبعادها عن تمحيص الأخبار الحقيقية من الملفقة، والفشل في تشخيص مصدر المعلومة، والتشكيك بالمعلومات عبر فنيات الذكاء الاصطناعي ومهارات رسوم الجرافيك.
استراتيجية تزييف الحقائق
فمن الصعوبة بمكان إقناع العوام الذين يستمدون كل معلوماتهم من الإعلام الموجه ببعض الحقائق، وخير مثال التعاطي مع جائحة الكورونا، وتفسير هذا أنهم لا يظهرون استعدادًا لقلب قناعاتهم بسهولة، بل يدافعون عنها بضراوة وكأنها حقائق مسلمة، مع ميلهم إلى تصديق الأفكار والمعلومات المتكررة، وقابليتهم للانخداع حتى في إطار أبسط البديهيات، ومن هنا فالإعلام الموجه بجرعاته الهادفة لاستدامة سيل الترفيه والمرح يتم تقديمه على حساب الإعلام الجاد والفضائيات الحوارية النخبوية المتخصصة التي تخاطب العقل.
استراتيجية الشيطنة
عملت شبكات التلفزة على غسل الأدمغة بموضوعات بالغة في السخف تهدف لصناعة عدو وهمي، عبر تلقين الرأي العام من خلال الإعلام الموجه الذي يحرص على تهدئة خواطر الجماهير موهما إياها بأنه ينتهج المكاشفة، وهو أبعد ما يكون عنها ببلطجته الإعلامية الشعبوية، لأنظمة شمولية تنفق مليارات الدولارات على شركات العلاقات العامة، وتوظيف المشاهير لتبييض السجل المزري في مجال حقوق الإنسان.