محنة محمود محمد طه

15 ابريل 2019
+ الخط -
ذات يوم من منتصف العقد الثامن من القرن العشرين، شكرتْ رابطة العالم الإسلامي الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري- جزاه الله خيراً-.. لماذا؟! لأنه أعدم "الزنديق الصوفي الباطني المرتد" محمود محمد طه، وذلك في المرحلة التي أعلن فيها نميري تطبيق الشريعة في دولته.


فمن يكون هذا "المرتد" الذي رأى فيه نميري رأساً قد أينع وحان قطافه؟

1
محمود محمد طه سوداني وديع، يفيض رحمة وطيبة، وجماعته صغيرة، وديعة، بسيطة، قليلة العدد، تدعو إلى سبيل ربها بالمغفرة والموعظة الحسنة، تحمل "الفكرة الجمهورية" في صياغة مشروعها. عاش جلَّ حياته في الخرطوم وهي مدينة هادئة مسالمة. وظلَّ لأكثر من أربعين عاماً يدعو إلى تطبيق الشريعة، ولم يخلق مشكلة لأي حاكم أو نظام، لم يحمل ولم يدع إلى حمل السلاح. ولم يسمع عنه أحد خارج السودان، لأنه، كما قلت، كان هادئاً، وديعاً، ولو قلت إنه كان يوزع منشورات، لكان في الأمر مبالغة، لأن ما كان يوزعه- العبد الفقير البسيط- أبحاث، وبيانات صغيرة، قليلة، على ورق رخيص، يحاول بها أن يُثير حواراً حول ما يقتنع به من آراء.


2

فجأة، أعلن الرئيس السوداني جعفر نميري تطبيق الشريعة الإسلامية بقرارات منزَّلة وكأنها وحي يوحى. ولم تمض أيام حتى اعتقل السيد الصادق المهدي، لأنه في صلاة العيد انتقد بعض أساليب تطبيق الشريعة. وكان هذا فألاً سيئاً، فسلطة جعفر نميري بعد أن تهلهلت راياتها، ولم تعد تقنع أحداً، رفعت راية الإسلام. ولقد ظنَّ محمود محمد طه بعد إعلان تطبيق الشريعة أنه في عهد أمير جديد للمؤمنين. ولعل خيالاته صورت له حين رأى نميري يخطب في أحد المساجد أنه في حضرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولعله تذكر حكاية المرأة التي ناقشت ابن الخطاب في المسجد أمام الناس، وانتهى النقاش بقول أمير المؤمنين "أخطأ عمر وأصابت امرأة".

3

وقف محمود محمد طه يحمل أعوامه الثمانين واجتهاداته على مدى أربعين عاماً، أياً كانت، في هذا الموضوع، وحاول مناقشة رئيس المؤمنين الجديد. وقال له نميري: تستطيع أن تأتي إلى مكتبي وتناقشني في أي وقت. وردَّ عليه طه: المناقشات في قضايا الإسلام كانت تجري علناً أمام الناس. وعرف محمود محمد طه السجن، واختفت أنباؤه شهوراً، هل أُطلق سراحه؟ هل بقي في السجن؟ هل نوقش؟ هل عُذّب؟ لا أحد يعلم ما جرى. حتى أُعلن عن تقديمه إلى المحكمة مع أربعة من صحبه والحكم عليهم بالإعدام بعد محاكمة لم تستمر ساعة.

4
نُفذ حكم الإعدام "شنقاً حتى الموت" وانتظروا جثته المعلقة على الحبل عشر دقائق قبل إعلان التأكد من أن روحه قد فارقت الجسد. وكانت التهمة التي أرسلوه بها إلى السماء أنه "مرتد". وقالت المحكمة في حكمها إنها تُعطي الأربعة الآخرين شهراً يتأملون فيه بعد أن شاهدوا الإعدام، فإذا أعلنوا توبتهم لا يُنفذ فيهم الإعدام. ولكن "رئيس المؤمنين"، وهو يُصادق حكم الإعدام، خفض مهلة الشهر إلى ثلاثة أيام. وفي اليوم التالي للإعدام، كان الأربعة قد أعلنوا توبتهم عن الخطأ، وارتدادهم عن الارتداد، وأن نميري على حق. ولعل نميري يومها نام مستريحاً لأنه "هدى أربعة من الناس إلى سبيله" فأقوى حجة مقنعة، مفحمة، هي حبل المشنقة!

5
إنني هنا لا أناقش دعوة محمود محمد طه ولا كلامه، ولكنني أعرف فقط أنه لم يحمل سلاحاً ولا حرَّض على شغب، ولكنه مضى، كما شاء أن يمضي، يدعو إلى طريق ربه، كما تصوره، بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد رأى نميري حينها رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ففعل ما فعل ليوطّد حكم العسكر.

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.