المونولوج، كما يعرّفه فيكتور سحاب: "أغنية وجدانية تعبيرية مستوحاة من "الآريا" في الأوبرا الإيطالية". وهو نص سردي، لا يتكرر فيه مذهب، ولو تكررت فيه بعض الجمل، فإنها لا تكون مذهباً، والأصل فيه أن يكون باللهجة العامية؛ لكن قد يأتي بالفصحى، مع شروط تفرّق بينه وبين القصيدة، أهمها اختلاف القوافي والموازين، بل وسوق الكلام سرداً من دون قافية أو ميزان.
في المنام
عرف الغناء المصري قالب المونولوج للمرة الأولى عام 1920، عندما غنى سيد درويش "والله تستاهل يا قلبي" من كلمات أمين صدقي. كانت صورة بدائية لهذا القالب، الذي استهوى القصبجي بعدها بسنوات قليلة، فأعطاه جُل وقته وفكره، وعمل على تحديد شخصيته، وترسيخ مكانته، وتسييده على غيره من قوالب الغناء.
ومن الغريب أن أول عملين قدمهما القصبجي لأم كلثوم، لم يكونا من هذا القالب، فأحدهما طقطوقة بعنوان "قال إيه حلف ما يكلمنيش"، والثاني قصيدة بعنوان "إن حالي في هواها عجب". والغالب أن ظهورهما كان متتالياً بين عامي 1924 و1925. وهو نفس التوقيت الذي بدأ فيه تشكل الثلاثي الغنائي: رامي والقصبجي وأم كلثوم، إذ هيمن المونولوج على إنتاجهم المشترك مقارنة بكل القوالب الغنائية.
ربما كان "خيالك في المنام" أول مونولوج يلحنه القصبجي لـ أم كلثوم، وقد استهل رامي كلماته بقوله: "خيالِك في المنام حلمي... وشخصك أنسي وأنا صاحي... وحبك يجري في دمي... وصوتِك نشوتي وراحي". ظهر هذا المونولوج مطبوعاً على أسطوانة لشركة غراموفون في عام 1925.
ورغم بساطة اللحن، إلا أنه حمل إرهاصاً لما سيقدمه القصبجي من أفكار عبر هذا القالب، أو بتعبير فيكتور سحاب: "أغنية بسيطة تنم عن آفاق التعقيد المقامي والتطوير الدرامي عند القصبجي في مونولوجاته النموذجية في العشرينيات والثلاثينيات".
مع دخول عام 1926، توالت مونولوجات القصبجي لأم كلثوم، واتسمت كلها بالتنوع المقامي والثراء النغمي، وأيضاً كانت كلها من تأليف أحمد رامي، ومنها "زارني طيفك" الذي مثل نبوءة لما فعله القصبجي في لحن "يا طيور" لأسمهان، و"أخدت صوتِك من روحي"، و"قلبك غدر بي"، و"الحب كان من سنين"، ومقامات هذه المونولوجات الأربعة جاءت على الترتيب حجاز وكرد ونهاوند وراست؛ ما يعني أن القصبجي كان حريصاً على التنوع المقامي، وإثبات قدرته على التعامل مع المونولوج بمقامات وإيقاعات مختلفة.
إن كنت أسامح
كان عام 1928 محطة مفصلية في تاريخ محمد القصبجي، وأم كلثوم، بل وقالب المونولوج، إذ أنجز القصبجي لحنه المهم "إن كنت أسامح"، وغنته أم كلثوم، ليحدث دوياً غير مسبوق ولا مشهود منذ بدايات النهضة الموسيقية العربية.
يُجمع مؤرخو الفن على أن هذا العمل هو أول مونولوج مكتمل الأركان، واضح الشكل، في الغناء العربي، ويعتبرونه الميلاد الحقيقي لهذا القالب، رغم بعض المحاولات الخجولة قبله في أعمال لسيد درويش أو محمد عبد الوهاب، أو حتى للقصبجي نفسه.
عرضت شركة "غراموفون" على أم كلثوم نسبة من أرباح الأسطوانات المباعة، مقدارها خمسة قروش عن كل أسطوانة، فرفضت المطربة الصاعدة، وأصرت على نيل أجرها كاملاً، بمقدار 80 جنيهاً.
لم تكن تعرف ولا تتوقع أن يكون النجاح الجماهيري بهذا الاتساع. باعت الشركة ربع مليون أسطوانة وفقاً لأقل التقديرات. وفات أم كلثوم مبلغ يتجاوز 12 ألف جنيه. أنهى لحن القصبجي كل أمل لمنافسة أم كلثوم، فجلست مستريحة على عرش الطرب بلا منافس لنحو نصف قرن.
الدوي الكبير لـ"إن كنت أسامح" كان له أثره السريع على مطرب عصره، محمد عبد الوهاب، حامل راية التجديد الغنائي والتلحيني. فلم تمر أشهر حتى دخل بقوة على خط "المنافسة المونولوجية" فغنى "أهون عليك" ثم أتبعه "في الليل لما خلي"، والأخير معدود ضمن خوالد الغناء في القرن العشرين.
استقر إذن قالب المونولوج في القبول العربي الجماهيري الواسع. وبعد سنوات، التحق بالمسيرة الشيخ زكريا أحمد، ثم رياض السنباطي. كان المونولوج باباً واسعاً فتحه محمد القصبجي لكبار الملحنين العرب، فساروا جميعا خلفه.
نسبياً، فإن القصبجي قد تأخر قبل أن تتفجر طاقاته الإبداعية، فالرجل ولد في نفس عام ميلاد سيد درويش (1892)، لكن الشيخ سيد انطلق بإنتاجه الغزير، وتوفي عام 1923 من دون أن يكون للقصبجي تاريخ فني مؤثر.
عزا إلياس سحاب هذا التأخر النسبي لإبداع القصبجي إلى عدة أسباب، أهمها أن المناخ الغنائي السائد لم يكن مواتياً، فالفكر التلحيني للقصبجي لا يتناسب مع منيرة المهدية ولا فتحية أحمد، ولم يكن الرجل يملك صوتاً جميلاً يمكنه من تقديم أفكاره، فادخر ما يحمله من رؤى وأفكار إلى أن ظهر له الصوت القادر على التنفيذ متمثلاً في أم كلثوم التي وجد فيها غايته وضالته وبأكثر مما كان يحلم. وبالطبع، استلزم هذا المشروع نصوصاً ذات طابع وجداني، فقام بالمهمة أحمد رامي على أكمل وجه.
وبكلمات رامي، وصوت أم كلثوم، واصل القصبجي مشروعه في تطوير المونولوج، فقدم أواخر العشرينيات عدداً من المونولوجات المتميزة، منها "الشك يحيي الغرام"، و"سكت والدمع اتكلم"، و"بعدت عنك بخاطري". وفي عام 1931، قدم زكريا أحمد أول مونولوجاته لأم كلثوم، "ياما أمر الفراق"، متأثراً بهيمنة القالب على الحالة الغنائية.
وخلال السنوات الخمس الأولى من عقد الثلاثينيات، استمر القصبجي متدفقاً كالشلال في تقديم ألحانه من هذا القالب، ومنها "عيني فيها الدموع"، و"طالت ليالي البعاد"، و"يا غائباً عن عيوني"، و"ياللي أنت جنبي"، و"يا عشرة الماضي"، و"ياللي جفاك المنام" و"فين العيون".
وبلغ ذروة عليا عام 1934 بلحنه لمونولوج "انظري هذي دموع الفرح" من مقام العجم، فأظهر جانباً كبيراً من التعقيد النغمي وقوة الحبك. ثم توج القصبجي هذه المرحلة بواحد من أخلد مونولوجاته، "أيها الفلك على وشك الرحيل"، وهو من نوادر الفصحى في هذا القالب.
أما النصف الثاني من عقد الثلاثينيات، فاستهله القصبجي بمونولوج "حيرانه ليه يا دموعي"، وبلحن حمل كثيراً من الأفكار التجديدية للرجل، ثم واصل التدفق: "يا نجم" و"ليه يا زمان" و"يا بهجة العيد"، و"يا طير يا عايش أسير"، و"ياللي ودادي صفالك"، والأربعة الأخيرة كلها من فيلم "وداد". واستمر: "ياما ناديت"، و"منيت شبابي"، و"نامي يا ملاكي"، و"ياللي صنعت الجميل"، و"يا مجد ياما اشتهيتك" والأربعة الأخيرة من فيلم "نشيد الأمل"، وهو الفيلم الذي قدم فيه السنباطي مونولوجه الأول لأم كلثوم: "قضيت حياتي"، ليدخل مع عبد الوهاب وزكريا على خط منافسة السنباطي، لا سيما مع تلحينه لمونولوجه الخالد "النوم يداعب جفون حبيبي" عام 1937.
وفي عام 1938، غنت أم كلثوم وبألحان القصبجي أحد أهم مونولوجات رامي "يا قلبي بكرة السفر"، وهو مونولوج طويل نسبياً، مقارنة بسابقيه، لذا يمكن أن نعتبره أول الأغنيات المسرحية الكبيرة التي يقدمها القصبجي لأم كلثوم. بالطبع، لم يكن القصبجي بعيداً عن تلحين القوالب الغنائية المختلفة، لا سيما ما كان سائداً منها، وفي مقدمتها القصيدة والطقطوقة، لكنه كان مقلاً فيها مقارنة بكثافة ألحانه في قالب المونولوج، وليس للرجل محطات مهمة مع "القصيدة" لكنه قدم أكثر من طقطوقة خالدة، على رأسها "ما دام تحب بتنكر ليه".
وفي الإجمال، ذهب وجه الرجل جهده وفكره وإبداعه لقالب المونولوج، ولم يكن غريباً أن يصفه الناقد والمؤرخ الموسيقي الراحل كمال النجمي بقوله: "القصبجي في الأساس ملحن مونولوج".
رق الحبيب
مع دخول العام 1940، أصبح من الواضح ميل أم كلثوم وجمهورها إلى الأغنية المسرحية الطويلة، وجاء تلحين رياض السنباطي لمونولوج "هلت ليالي القمر" جديداً متفوقاً معبراً لأبعد الحدود، ثم وضعت أم كلثوم كلمات "رق الحبيب" أمام القصبجي، فنظر فيها الرجل، ثم تدفق بالألحان، وأخرج فيها مخزون خبرته المتراكم، وفيض إبداعه المتجدد، وفي خلال أربع ساعات، ولد أشهر مونولوجات القرن العشرين، في لحن استهل بالنهاوند، واختتم بالبياتي. وبين الاستهلال والختام تتعدد المقامات والإيقاعات، وتتفجر الطاقات التعبيرية، وغنى العالم العربي كله: "من كتر شوقي سبقت عمري.. وشفت بكرة والوقت بدري... وإيه يفيد الزمن... مع اللي عاش في الخيال... واللي في قلبه سكن... أنعم عليه بالوصال".
يقترب عمر "رق الحبيب" من ثمانية عقود، وما زالت حية نابضة، يسمعها الكبار والصغار، ويندهش لها المتخصص وغير المتخصص. كانت تتويجاً لمسيرة استمرت 16 عاماً، وهبها القصبجي مخلصاً لقالب المونولوج. فأخذه من هوة العدم إلى سماوات الفن الخالد، بنى صرحه بيده لبنة لبنة، واستطاع أن يفرضه على المشهد الغنائي كله، وأجبر كبار الملحنين العرب على التعامل مع لون جديد غير مطروق تراثياً.
لقد مثلت "رق الحبيب" تحدياً تنافسيا كبيراً، واتخذ تلحين المونولوج بعدها مسارات مدهشة، وأصبح القالب محلاً لتفكير عميق وجهد كبير، فجاءت مونولوجات كبار الملحنين قطعاً فنية خالدة تجمع بين التعبير والتطريب. قدم السنباطي "غلبت أصالح في روحي"، و"سهران لوحدي" و"جددت حبك ليه".
وتفنن زكريا أحمد في "الأولة في الغرام" و"الآهات" و"أهل الهوى" و"حلم". بل إن تلحين الطقطوقة الطويلة اقترب كثيراً من طرائق تلحين المونولوج، كما نراه في "إنت عمري" و"إنت الحب" لعبد الوهاب، أو "سيرة الحب" و"فات الميعاد" لبليغ حمدي. علاقة هذه النصوص بالطقطوقة علاقة شكلية ظاهرية، وهي عملياً أقرب ما تكون إلى المونولوجات المسرحية.
اتخذ كبار ملحنينا من "رق الحبيب" دافعاً للإجادة والإبداع، وقوة للتحدي والمنافسة. لكن مع الأسف، فقد شكلت الأغنية الخالدة عقبة كبرى لصاحبها، فلم يستطع تجاوزها حتى رحيله في مارس/آذار 1966. قلت ألحانه لأم كلثوم وغيرها، ثم توقف تماماً عن إنتاج أي لحن جديد.
وعبر العقود الماضية غرقنا في بحر خضم من الكتابات التي تحاول تحليل أسباب توقف القصبجي عن التلحين، أو أسباب توقف التعاون الفني بينه وبين أم كلثوم. كتابات لا يمكن أن نخرج منها بقول قاطع، أو يقين مطمئن. لكن المؤكد أن محمد القصبجي قال في "رق الحبيب" كلمته الأخيرة. ثم لم يجد بعدها ما يقوله، فخسره العرب مبكراً.