محاكمة تعيد الحرارة إلى قضية دارفور

18 يونيو 2020

أسرة مهجّرة في أحد مخيمات نيالا بدارفور (9/10/2019/فرانس برس)

+ الخط -
تطور لافت في ملف المحكمة الجنائية الدولية الخاص بإقليم دارفور في غرب السودان، تسليم علي كوشيب لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، ثم بدؤها التحقيق معه الاثنين الماضي (15 يونيو/ حزيران). وكوشيب هو أحد قادة مليشيات الجنجويد، ومن المطلوبين للمحكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الإقليم، مثل مسؤولين سابقين في النظام السابق في السودان، وفي مقدمتهم الرئيس عمر البشير، بصفته أيضا القائد العام للجيش، ووزير الدفاع عبد الرحيم حسين، ووزير الدولة أحمد هارون.
شيء ما تحرّك أخيرا في لاهاي تجاه ملف جرائم دارفور، وفرحة تعم الضحايا وأسرهم في إقليم دارفور بأن يد العدالة قد امتدت أخيرا لتقبض على أحد الجناة المطلوبين. ثمّة أسئلةٌ بدأت تجد طريقها إلى الحوار العلني في الخرطوم وعواصم أخرى بشأن مستقبل بقية المطلوبين رهن المعتقل في السودان. والمفرح أن دولة صغيرة، هي أفريقيا الوسطى، فعلت ما عجزت عن تنفيذه دول كبرى، مثل جنوب أفريقيا التي سمحت بإفلات عمر البشير ورفضت تسليمه.
وعلى تواضع موقع كوشيب ضمن قائمة المطلوبين، إلا أن اعتقاله مهم للغاية، لأنه يفتح المجال 
للمناقشة والمراجعة سودانيا وأفريقيا. من الناحية السودانية، لا يخلو الأمر من تعقيدات حقيقية، فالبشير ومطلوبون آخرون في سجون الحكومة السودانية، والموقف الرسمي للسودان تحيط به ضبابية كثيرة. والواضح أن الدولة بشقيها، مجلسي السيادة برئاسة عبد الفتاح البرهان والوزراء برئاسة عبدالله حمدوك، ليس لديها رؤية واضحة متفق عليها في شأن التعامل مع المعتقلين المطلوب تسليمهم للمحكمة الجنائية، فالبرهان قطع في يوليو/ تموز 2019 أن السودان لن يسلم البشير، ولا أيا من المطلوبين الآخرين للجنائية الدولية، ولا تفوته فرصة لتأكيد هذا الموقف، وجديدها أخيرا إقحامه أمر استبعاد الجنائية الدولية في حديثه عن القوات الدولية التي طلبتها الحكومة السودانية تحت البند السادس للأمم المتحدة. وهو موقف يناقضه عضو آخر في مجلس السيادة السوداني في شقه المدني، أحمد التعايشي، وأحد المسؤولين عن ملف السلام في البلاد، أحمد التعايشي، إن السودان سوف يسلم المطلوبين، باعتبار ذلك من أهم استحقاقات السلام في دارفور. وقد برز التوجه نفسه في تأكيد المتحدث باسم مجلس السيادة، محمد الفكي سليمان، عدم وجود أي جهاتٍ في السُلطة الانتقالية تمانع في تسليم عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية. وجاء موقف الحكومة مغلفا بكثير من الدبلوماسية، في قول حمدوك إن أمر تسليم البشير والآخرين يحدده القضاء السوداني، علما أن الحاضنة السياسية للحكومة، ممثلة في قوى الحرية والتغيير، اتخذت موقفا أكثر وضوحا وجرأة، بضرورة تسليم المطلوبين للجنائية الدولية.
ويذكر العالم حديث عمر البشير في مارس/ آذار 2009 المبتذل في تحدّيه قرار مجلس الأمن بإحالة القضية للمحكمة الدولية "المحكمة وأوكامبو (المدعي العام السابق) تحت حذائي". والظاهر حاليا أن حذاء البشير ربما سيكون مطيته إلى لاهاي. وبديهي أن يرتفع الصوت داخل السودان، مدعوما بأصوات أفريقية بضرورة إجراء المحكمة كاملة داخل السودان، بالتعاون مع "الجنائية الدولية". ومؤكد أن مناصري لاهاي من السودانيين، وخصوصا الضحايا وأهاليهم في دارفور، يتحمسون لعقد المحاكمة في المدينة الهولندية، ولعدة أسباب، أهمها أن النظام القضائي في السودان يخضع حاليا لإعادة هيكلة ومحاربة الفساد المتغلغل فيه، والذي كان قد حوله إلى جسم تابع لحزب المؤتمر الوطني الذي رأسه البشير، بمعنى أن النظام القضائي تغير كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضية، ولم يعد محط ثقة كثيرين في السودان، من حيث الاستقلالية والنزاهة. أضف إلى ذلك أن البطء الشديد في التعامل مع المعتقلين من رموز نظام البشير ماثل للعيان، على الرغم من مرور أكثر من سنة على زجّهم في السجون. الأمر الثاني أنه لا توجد منظومة عدلية جديرة ومؤهلة للتعامل مع قضايا كهذه، وجرائم ضد الإنسانية كما حدث في دارفور، ما يجعلها محل ثقة من الطرفين المطلوبين أو الضحايا. وهو ما أكد عليه المدعي العام السابق للمحكمة الدولية، لويس مورينو أوكامبو، أن "لجنة تقصي الحقائق حول الادعاءات بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بواسطة المجموعات المسلحة في دارفور"، والتي ترأسها دفع الله الحاج يوسف، 
توصلت إلى نتائج رائعة، لكن تقريرها الذي أعد بطلب من حكومة البشير أهمل، وجرى نسيانه، مع عدم توفر البنية القانونية المناسبة لإجراء المحاكمات محليا. أكثر من ذلك، افتقار السودان لمنظومة فاعلة لحماية الشهود والضحايا، ما يجعلهم عرضة لجملة من المخاطر. ولذلك وحتى إن وافقت المحكمة الدولية على التقاضي في السودان، فإن البنيات القضائية في السودان غير مهيأة للشروع في محاكمة عادلة مكتملة الأركان.
يزيد هذا الوضع الداخلي تعقيدا أن تسجيلات كثيرة متداولة، بطلها علي كوشيب نفسه، قالها بوضوح إنه كان "العبد المأمور"، وأنه استغل وبشكل مباشر من قيادات الحكم السابق، بل والحالي أيضا، ممثلين في البرهان وقائد الدعم السريع، حميدتي، وهي نفسها التي كانت تمثل الجنجويد الذين كان كوشيب أحد قادتهم. وإن كانت "الجنائية الدولية" لم توجه التهم للبرهان أو حميدتي، فإنهما قطعا من الأسماء التي أوردها الشهود من الضحايا الذين استمعت إليهم المحكمة في لاهاي، بكل ما قد يثيره ذلك من لغط محلي. ولذا، يقول المنطق والعقل إن لاهاي، في ظل هذه الظروف المعقدة، تبدو الحل الأمثل للحكم في السودان الذي يخضع هذه الأيام لمراقبة دقيقة من الشركاء المرتقبين في الأسرة الدولية، والذين سوف يباشرون، بقيادة الأمم المتحدة، بحث سبل دعمم السلام والتنمية في السودان، وخصوصا في إقليم دارفور. ولاهاي حل أمثل، لأن لا أحد سوف يثق في أي محكمةٍ تشكل محليا، فما قد يرضي الضحايا قد لا يرضي المطلوبين. وبالتالي حتما ستكون الثقة شرطا مفقودا في أي محاكمة قد تجري داخل السودان.
وسترعب إشارة البدء التي يطلقها كوشيب كثيرين من القادة الأفارقة الذين استبعدوا بقرار فوقي تقديم أي مسؤول أفريقي للمحكمة الدولية، واعتبروا في ذلك استهدافا للقارّة وزعمائها. وفي الواقع، يقول لسان حال الشعوب الأفريقية عكس ذلك، فالمحكمة الجنائية تنقذ هذه الشعوب من بطش الرؤساء ومن القتل المشرّع بلا حدود.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.