الناس ذاتهم في الصورة. يتكرّرون في كلّ مرّة. تتكرّر وجوههم وأسماؤهم في كلّ الأماكن والتظاهرات. يرفعون الشعارات واللافتات نفسها. الناس في الصورة لا يملّون. من أين جاؤوا بكل هذا الحماس؟
الناس في الصورة يعرّفون عن أنفسهم على أنهم ناشطون في المجتمع المدني. ماذا يعني أن يكون المرء ناشطاً في المجتمع المدني؟ ثم إذا كان هؤلاء ناشطين في المجتمع المدني حقاً فماذا تكون البقية الباقية من الناس؟
انتهت الحرب اللبنانية منذ أكثر من عشرين عاماً. أخذت من وما أخذته في طريقها. خرجت منها ميليشيات إلى الدولة، وأناس إلى الهجرة، وخرجت مجموعات نحو الأعمال الخاصة.
انتهت الحرب ونبتت جمعيات مثل الفطر في ظل قانون هرِم ينظّم عملها، قانون ينتمي إلى العهد العثماني. نبت الفطر بعدما سقاه الماء الأوروبي والأميركي على شكل دعم لمشاريع محددة. دعمت الأموال الأوروبية والأميركية، عبر الجمعيات، قضايا من المفترض أنها عادلة، بعدما عجزت الحكومات الفاسدة المتوالية عن التقدّم في الملفات الإنسانية. ملفات مثل العنف الأسري، وحقوق المرأة، والتحرّش بالأطفال، ومراقبة الانتخابات، وصولاً إلى حقّ التمتع بالمساحات العامة، وغيرها من العناوين.
يتصارع الشباب على الوظائف في جمعيات المجتمع المدني لارتفاع الرواتب فيها، والتي قد تكون "خيالية" في بعض الأحيان. والتوظيف، بمعظمه، يتم وفق المحسوبيات والوساطات والصداقات، مثله كمثل وظائف الدولة. لم نسمع يوماً عن جمعية من هذه الجمعيات التي تدّعي الشفافية تقدّمت بموازنتها للرأي العام كي يستنير من أين هبطت الأموال وكيف صُرفت في سبيل القضايا. كأن هذه الجمعيات، التي باتت تنشقّ عن بعضها البعض و"تخترع" عناوين لتقاتل من أجلها، مجتمع سرّي لا يجوز النفاذ إليه. نرى أسماء المانحين على ملصقات وكتيّبات الجمعيات. وشكر. الكثير من الشكر والرجاء.
لكن كم من القضايا تقدّمت حقاً؟ هل دفع هذا العمل "المدني" باتجاه تغيير حقيقي؟ تمكّنت هذه الجمعيات، في بعض الأحيان، من تقديم "داتا" للصحافيين وللعامة في ظلّ غياب الأرقام الرسمية. "داتا" تكلّفت غالياً من دون شك. لكن هل تمكنت من خلق تغيير في فهم المجتمع للقضايا فأثارت تعاطفاً معها واندفاعاً للنزول إلى الشارع من أجلها؟ هل يحتاج "الفهم" إلى مئات ملايين الدولارات واليوروات؟
الواقع أن بعض "المجتمع المدني" لم يعد مدنياً فحسب. صار تجارياً وفاسداً. مثله كمثل السلطة بالضبط.