تمت المصادقة مؤخراً على قانون "شركة النفط الوطنية العراقية" بعد مناقشات برلمانية ومراجعات حكومية دامت عدة سنوات. سيحدث هذا القانون تغييرات جوهرية في مالية الدولة العراقية. إذ لم تعد الإيرادات النفطية الإجمالية وكذلك النفقات اللازمة لتحقيق هذه الإيرادات تدرج في ميزانية الدولة.
بل أصبحت جميع الأنشطة النفطية الصناعية والتجارية والمالية محصورة بهذه الشركة التي تتمتع بالاستقلال عن الميزانية العامة. تحول 90% من أرباحها الصافية إلى خزينة الدولة. أما النسبة المتبقية فتوزع على أربع مؤسسات: الشركة وصندوق الأجيال وصندوق الإعمار وصندوق المواطن. ولا توجد في القانون إشارة إلى النسبة المخصصة لكل مؤسسة.
فكرة توزيع نسبة من الإيرادات النفطية مباشرة على المواطنين ليست جديدة، بل طرحت منذ عدة سنوات من قبل بعض الأحزاب، والسبب استشراء الفساد المالي وضعف الأداء الاقتصادي الحكومي وتفاقم الفقر وارتفاع معدل البطالة وتردي مستوى المعيشة.
من المستفيد؟
ينص قانون الشركة على "تخصيص نسبة من الأرباح لصندوق المواطن حيث توزع على أسهم متساوية القيمة لجميع المواطنين المقيمين في العراق وحسب الأولوية لشرائح المجتمع. ولا يجوز بيع وشراء أو توريث الأسهم وتسقط عند الوفاة".
لكل عراقي إذن مبلغ معين من المال يساوي المبلغ الذي يحصل عليه عراقي آخر بغض النظر عن العمر والحالة الاجتماعية والمقدرة المالية، في حين كان من الأجدى توزيع الأموال العامة حسب الحاجة ووفق المعايير المعروفة في الرعاية الاجتماعية. أي تزداد الحصة بانخفاض الإمكانات المالية لكل فرد.
والمستفيد هو العراقي المقيم في العراق، ولا حصة للعراقي المقيم خارج البلد. في حين كان من الأفضل المساواة بين العراقيين دون النظر إلى محل إقامتهم. هذه التفرقة خطيرة وليس لها مبرر معقول، فقد كان من الأولى فتح حسابات مصرفية في الداخل لعراقيي الخارج وإيداع حصصهم فيها إذا كان الهدف من حرمانهم الحفاظ على النقد الأجنبي من الاستنزاف بتحويله إلى الخارج.
وتجدر الإشارة إلى أن مشروع قانون الشركة منح لكل عراقي سهماً واحداً سواء كان مقيماً في داخل البلد أم في خارجه. لكن التعديلات المتكررة التي طرأت على المشروع ألغت هذه المساواة.
قانون الشركة يساوي إذن بين الأفراد عندما يتعين عليه التمييز بينهم وفق إمكاناتهم المالية وأحوالهم الاجتماعية. ويميز بينهم عندما يتعين عليه إقرار المساواة بين المواطنين وفق الدستور.
أما التوزيع حسب "الأولوية لشرائح المجتمع" فهي عبارة مبهمة وتتناقض مع الفقرة السابقة. المقصود عادة بشرائح المجتمع: الطبقات الفقيرة والمتوسطة والغنية. إذا كانت الأولوية للفقراء، فلماذا النص إذن على التوزيع المتساوي على جميع العراقيين؟
وينص القانون على حظر بيع أو شراء أو توريث الأسهم. وهذا التقييد يتناقض مع المادة 111 من الدستور التي تنص على أن "النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات".
ومن خصائص الملكية حسب المادة 1048 من القانون المدني العراقي حقوق التصرف والاستغلال بشتى الطرق بما فيها البيع والتوريث، لكن تقييد الملكية على النحو الوارد في قانون الشركة يعبر عن موقف سليم، لأنه يحافظ بهذه الوسيلة على حقوق الأجيال القادمة.
كما أن الملكية التامة وفق قواعد القانون المدني تقود إلى سيطرة الأغنياء على أسهم الصندوق، وبالتالي يصبح النفط مملوكاً لفئة من المجتمع وليس لكل الشعب.
إن حصول المواطنين على الأرباح مرهون بتسليم سلطات محافظتهم عائدات النفط للشركة، فقد نص الحرف جيم من الفقرة الثالثة من المادة 13 على ما يلي: "الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم التي تمتنع عن تسليم عائدات النفط والغاز المنتج إلى الشركة تحرم من الأرباح ويضاف استحقاقها إلى باقي المساهمين".
مما لا شك فيه أن الصياغة القانونية لهذا النص ضعيفة. فهي توحي بمنح السلطات المحلية الخيار بين تسليم الأرباح للشركة وبالتالي حصول سكانها على الأرباح أو عدم تسليمها لها، وبالتالي حرمان سكانها من الأرباح.
وقد أشارت كتابات كثيرة إلى هذا الخيار وإلى عدم تردد السلطات المحلية في الامتناع عن تسليم الأرباح نظراً للفرق الشاسع مع الحصة المقررة لصندوق المواطن. وتستنتج أن هذا القانون يؤسس لاستقلال المحافظات وبالتالي تفتيت العراق.
والواقع أن هذه التفسيرات غير منطقية. لأن الدستور يعتبر النفط ملكاً لكل العراقيين وليس للمحافظة المنتجة. كما ينص قانون الشركة على حصر جميع العمليات والحسابات النفطية بالشركة، لذلك فإن امتناع السلطات المحلية عن تسليم العوائد النفطية يعد عصياناً صريحاً.
وبالتالي ينبغي على السلطة المركزية معالجته بجميع الوسائل بما فيها العسكرية، ناهيك عن تحمل المحافظة المخالفة عقوبة حرمان سكانها من حصتهم في الصندوق وتوزع هذه الحصة على المحافظات الأخرى. وهذا هو معنى الإضافة في الفقرة الأخيرة من النص.
ضآلة التخصيص
تتعلق النقطة الأساسية للقانون بحجم المبالغ التي سيحصل عليها العراقي وبعلاقتها بحاجاته. حسب الجهاز المركزي للإحصاء يبلغ المعدل الشهري لإنفاق الفرد من المواد الغذائية 97 ألف دينار.
وإذا افترضنا أن أموال الصندوق توزع على 30 مليون عراقي في الداخل فإن المبلغ اللازم توفره في الصندوق لتغطية الحاجات الغذائية الكلية سيكون 2910 مليارات دينار شهرياً. وعلى افتراض حصول الصندوق على 2.5% من أرباح الشركة.
لتحقيق ذلك المبلغ الكلي يجب أن يكون الإيراد النفطي الشهري 116400 مليار دينار. في حين أن الإيراد الشهري الفعلي وفق آخر الإحصاءات الرسمية 7080 مليار دينار. وهكذا سيحصل العراقي على 5.9 آلاف دينار أي ما يسد رمقه لمدة تقل عن يومين في الشهر.
أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار معدل الإنفاق الشهري للفرد من جميع السلع والخدمات والبالغ 408 آلاف دينار فإن المبلغ الموزع سوف يكفي لتغطية حاجاته لمدة عشر ساعات في الشهر فقط. لكن المواطن لن يحصل حتى على هذا المبلغ الضئيل بسبب خضوع الأرباح الموزعة لضريبة الدخل التي سيتم تحديد سعرها من قبل مجلس الوزراء عند إعداد الميزانية العامة، وبالتالي سيرتفع سعر الضريبة فتنخفض الأرباح الصافية للفرد كلما زاد عجز الميزانية العامة.
كما يعين الربط بين صندوق المواطن والحصة التموينية. شهدت هذه الحصة هبوطاً كبيراً ومستمراً. فقد انتقل مجموع مخصصاتها في ميزانية الدولة (المواد الغذائية والأدوية والطاقة وغيرها) من 6964 مليار دينار في عام 2010 إلى 4886 مليار دينار في عام 2017 أي بمعدل سنوي قدره 4.2%. كما سجل عام 2018 انخفاضاً جديداً لها. في حين تحسنت أسعار النفط وانتهت العمليات العسكرية في الموصل والأنبار وحصلت الدولة على تمويل أجنبي بموجب اتفاقات مؤتمر الكويت للمانحين. أي ارتفعت الإيرادات العامة وهبطت النفقات العسكرية.
لن يلعب صندوق المواطن دوراً في تحسين الحالة المعيشية للعراقيين، لأن الدولة تقتطع من الحصة التموينية لتضيف إلى الصندوق. كما تدل المؤشرات دلالة واضحة على قرب إلغاء هذه الحصة بصورة نهائية والاستعاضة عنها بالصندوق خاصة أن استبدال الحصة العينية بمبالغ نقدية أمر مطروح في العراق منذ عدة سنوات.
ويلاحظ أن الدولة مرتبطة ببرنامج التصحيح الهيكلي لصندوق النقد الدولي الذي يتضمن منح القروض لتمويل عجز ميزانية الدولة مقابل الالتزام بتطبيق الشروط اللازمة ومن بينها تقليص ومن ثم حذف جميع أشكال الدعم أي الحصة التموينية، لذلك يفترض أن لا يرحب صندوق النقد الدولي بصندوق المواطن.
تستوجب السياسة الاقتصادية والاجتماعية السليمة استغلال العوائد النفطية في التنمية وليس في توزيعها مباشرة على المواطنين خاصة وأن المبالغ الموزعة ضئيلة جداً ولا تلعب أي دور في تحسين مستوى المعيشة.