20 نوفمبر 2024
مات طباخ الرئيس
غيّب الموت عن عمر يقارب الستين عاماً الممثل المصري طلعت زكريا الذي اشتهر بدور شخصية متولي طباخ رئيس جمهورية مصر العربية في فيلم "طباخ الريس" الذي كتب قصته يوسف معاطي وأخرجه سعيد حامد.
قدَّم طلعت زكريا ببراعة قصة مواطن عادي بلا أي توجهات سياسية، لديه عربة طعام في الشارع، وفي أحد الأيام يعتزم رئيس مصر، على غير العادة، التجول والسير وحيداً في شوارع القاهرة معتبراً هذا الأمر من حقه الشخصي، كأي مواطن عادي، لذلك أراد التحرك من غير حرس وأمن وموكب رئاسي، لكن عندما بدأ مشواره وجد الأزقة والشوارع خالية من أهلها، "البلد فضية" وذلك بسبب إعلان الحكومة - بالاتفاق مع الأجهزة الأمنية - عطلة ذلك اليوم تحت دعوى وجود كسوف للشمس لمنع الناس من الخروج من بيوتهم ومشاهدة رئيس الجمهورية يسير وحيداً في الشوارع، لأن في عصرنا الحديث هذا نادراً ما نجد رئيس الجمهورية يخرج إلى الجمهور دون حرس وأمن، بل نراه محاصراً من كل جانب، وكأن بينه وبين الجمهور ثأراً متروكاً.
والسؤال الذي يطرحه الفيلم ما الذي يمنع رئيس الجمهورية من التحرك بحرية، بحيث ينزل إلى الشارع، يقابل الناس، يدخل بيوتهم، في أي وقت يشاء؟ هل العيب فيه أم في مواطنيه؟ وكيف نشأت هذه الجفوة بينه وبينهم وهو المؤتمن على رقاب العباد والمسؤول أمامهم وأمام الله عن أحوالهم وأموالهم وأعراضهم وحياتهم؟ وفي العموم يستمد رئيس الجمهورية سلطته من الجماهير الغفيرة التي يحكمها بعقد الانتخابات، ومن حقها خلعه عندما يُخلّ بشروط هذا العقد.
يلتقي رئيس الجمهورية خلال سيره برجل أعمى في مقهى، فيسأله عن أحواله ويعزمه على طعام الغداء - وهي الحالة الأولى في التاريخ التي يعزم فيها رئيس جمهورية مواطناً على الغداء - وهذا الأعمى المعزوم يقود رئيس الجمهورية إلى صاحب عربة الطعام متولي ويأكل من يديه دون أن يتعرف عليه الطباخ لأن رئيس الجمهورية يرتدي نظارة شمسية غير معتادة، وفي اليوم التالي يطلب الرئيس إحضاره للعمل طباخاً في القصر الرئاسي، بعد أن اكتشف أمانته وإخلاصه بنفسه.
تتعدد طرائف الطباخ التي تكشف عن تلك الهوة الفظيعة بين أحول الناس المعيشية وما تعرفه السلطة السياسية عن هذه الأحوال. فعندما يطلب منه الرئيس أن يطعمه من الخبز العادي للناس، فيحضر له خبزاً أسود اللون من فرن حارته. وعندما يسأله عن ثمن طبق "كشري" يفاجأ رئيس الجمهورية بالسعر الذي قاله متولي والذي يزيد بأضعاف عن السعر الذي صرح به وزير التموين.
ثم تتكرر اكتشافات الرئيس لمعاناة الناس من خلال طباخه الذي لا يخفي عليه الأمور مثلما تفعل حاشيته، وحتى الملح والنوادر و"النكات" التي يُطلقاها العامة يطلب الرئيس من الطباخ أن يقصها عليه. إلى أن يضج منه كبار رجال الدولة ويطردوه من الخدمة ويخبروا الرئيس أنه اعتذر عن استمرار العمل نظراً لمرضه.
تخوفت الأجهزة الأمنية في عهد مبارك من السماح بعرض الفيلم فتحفظت عليه، فقد رأت فيه تجاوزات كثيرة وتفاصيل صغيرة لا ينبغي أن تُعرض على الجمهور، مع أن مخرج الفيلم سعيد حامد كان فطناً في إسناد دور رئيس الجمهورية إلى الممثل القدير خالد زكي - والذي فيه ملمح شبه من بعيد من حسني مبارك - وفي ظني أجاد خالد زكي لعب دور الرئيس وكان بارعاً فيه. لم تكن إجازة عرض الفيلم يسيرة لما يحمله من إسقاطات سياسية واجتماعية واقتصادية، وإنما استدعت أن يراه حسني مبارك بنفسه، ورغم رفض مسؤولين عرض الفيلم، لكن الرئيس اعتبره قريباً جداً من الحقيقة وأجاز العرض، بل أثنى عليه، ثم استقبل طلعت زكريا ليخبره بإعجابه بالفيلم مباشرة ويشيد بالدور الذي أداه، ما اعتبره الفنان أعظم تكريم له في حياته.
تقول سيرة حياة الممثل طلعت زكريا بأنه تخرج من قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون في القاهرة عام 1984، وكان عنواناً للبساطة والتلقائية والصراحة، فهو ابن بلد أصيل كما يُقال، عاش كما يعيش الناس في الأحياء الشعبية وحمل من تلك الأحياء الشيء الكثير من الأصالة والتلقائية.
يقول الكاتب المصري مصطفى عبيد في مقال منشور: لقد أدرك طلعت زكريا منذ بداية مشواره الفني في عالم التمثيل أن طريق الشهرة في الفن طويل وشاق ومتعرج، خاصة في ظل ذوق عام متقلب ومتغير، وسوق مزدحم بخليط من المواهب وأصحاب العلاقات والمصالح المشتركة. لذا لم يكن الرجل يشعر بغضاضة عندما اعترف بعمله في مهن بسيطة متنوعة خلال رحلة الصعود، طالت حتى العقد الخامس من عمره، من بينها عمله سائقاً، ومنقذ غرقى في الشواطئ، وطبالاً مع بعض الفرق الغنائية. إذا كان البعض يتصور أن تلك السنوات مثلت سنوات عذاب ومعاناة للفنان البسيط، إلا أن هناك جانبا إيجابيا لا يمكن إنكاره يتمثل في جني الفنان سمات شخصية عديدة موجودة في رجل الشارع العادي، بدءاً من اللهجة الشعبية الجذابة للعامة إلى تعبيرات الوجه المُضحكة في المواقف الصعبة أو عند المفاجأة.
أصيب طلعت زكريا في 2007 بمرض غريب ونادر ضرب شرايين في المخ، وأدى إلى دخوله في غيبوبة طويلة، وتحمله مصروفات علاج باهظة لم يتمكن من توفيرها. جاءت المفاجأة أن مبارك علم بظروف مرض الفنان وحاجته للسفر خارج البلاد للعلاج، فقرر ألا يتم ذلك على نفقة الدولة كما كان الأمر مع معظم الفنانين والمبدعين المشاهير، وإنما على نفقته شخصياً. وذكر طلعت زكريا أن مبارك تبرع من ماله الخاص بثمانية ملايين جنيه لعلاجه خارج مصر.
يمكن القول إن هذا التصرف لم يقم به مبارك مع أي من الفنانين الآخرين من قبل تقريبا، إذ كان المتبع في حالات من هذا النوع أن تقوم الحكومة بتحمل العلاج من مخصصات محددة لذلك، والطبيعي أنه كانت هناك حدود قصوى لتكاليف العلاج، وربما كان ذلك دافعاً للرئيس أن يقدم تكاليف العلاج من أمواله الشخصية، لأنه يعلم أن مخصصات علاج الحكومة قد لا تفي بعلاج الفنان.
ومن هنا فإن العلاقة بين الممثل طلعت زكريا وحسني مبارك أخذت بعداً إنسانياً ظهر مع بداية ثورة 25 يناير 2011 وقتها فكر الفنان طلعت زكريا كيف لا يساند رجلاً اعترف بموهبته وآمن بها وتعاطف معه وشجعه وأثنى عليه، وسانده عندما تعرض لمحنة مرض غريب نادر ومفاجئ.
نعم لقد ساند الممثل طلعت زكريا مبارك وعاب على المتظاهرين في ميدان التحرير ووصفهم بما لا يليق. لقد فعل ذلك -سامحه الله- والظاهر أن خياراته كانت محدودة في هذا الشأن، فانفض الناس من حوله، وتغيرت حياته.
وهذا يؤكد أن الاقتراب الشديد من السلطة السياسة مرّ المذاق، ويسهم هذا الاقتراب إسهاماً مهماً في تكبيل الفرد بأصفاد لا يمكنه الخلاص منها بسهولة. وقد جاء في الأثر أنَّ خياطاً سأل ابن المبارك: أنا أخيط ثياب السلاطين فهل تخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لا، إنما أعوان الظلمة من يبيع الخيط والإبرة أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
قدَّم طلعت زكريا ببراعة قصة مواطن عادي بلا أي توجهات سياسية، لديه عربة طعام في الشارع، وفي أحد الأيام يعتزم رئيس مصر، على غير العادة، التجول والسير وحيداً في شوارع القاهرة معتبراً هذا الأمر من حقه الشخصي، كأي مواطن عادي، لذلك أراد التحرك من غير حرس وأمن وموكب رئاسي، لكن عندما بدأ مشواره وجد الأزقة والشوارع خالية من أهلها، "البلد فضية" وذلك بسبب إعلان الحكومة - بالاتفاق مع الأجهزة الأمنية - عطلة ذلك اليوم تحت دعوى وجود كسوف للشمس لمنع الناس من الخروج من بيوتهم ومشاهدة رئيس الجمهورية يسير وحيداً في الشوارع، لأن في عصرنا الحديث هذا نادراً ما نجد رئيس الجمهورية يخرج إلى الجمهور دون حرس وأمن، بل نراه محاصراً من كل جانب، وكأن بينه وبين الجمهور ثأراً متروكاً.
والسؤال الذي يطرحه الفيلم ما الذي يمنع رئيس الجمهورية من التحرك بحرية، بحيث ينزل إلى الشارع، يقابل الناس، يدخل بيوتهم، في أي وقت يشاء؟ هل العيب فيه أم في مواطنيه؟ وكيف نشأت هذه الجفوة بينه وبينهم وهو المؤتمن على رقاب العباد والمسؤول أمامهم وأمام الله عن أحوالهم وأموالهم وأعراضهم وحياتهم؟ وفي العموم يستمد رئيس الجمهورية سلطته من الجماهير الغفيرة التي يحكمها بعقد الانتخابات، ومن حقها خلعه عندما يُخلّ بشروط هذا العقد.
يلتقي رئيس الجمهورية خلال سيره برجل أعمى في مقهى، فيسأله عن أحواله ويعزمه على طعام الغداء - وهي الحالة الأولى في التاريخ التي يعزم فيها رئيس جمهورية مواطناً على الغداء - وهذا الأعمى المعزوم يقود رئيس الجمهورية إلى صاحب عربة الطعام متولي ويأكل من يديه دون أن يتعرف عليه الطباخ لأن رئيس الجمهورية يرتدي نظارة شمسية غير معتادة، وفي اليوم التالي يطلب الرئيس إحضاره للعمل طباخاً في القصر الرئاسي، بعد أن اكتشف أمانته وإخلاصه بنفسه.
تتعدد طرائف الطباخ التي تكشف عن تلك الهوة الفظيعة بين أحول الناس المعيشية وما تعرفه السلطة السياسية عن هذه الأحوال. فعندما يطلب منه الرئيس أن يطعمه من الخبز العادي للناس، فيحضر له خبزاً أسود اللون من فرن حارته. وعندما يسأله عن ثمن طبق "كشري" يفاجأ رئيس الجمهورية بالسعر الذي قاله متولي والذي يزيد بأضعاف عن السعر الذي صرح به وزير التموين.
ثم تتكرر اكتشافات الرئيس لمعاناة الناس من خلال طباخه الذي لا يخفي عليه الأمور مثلما تفعل حاشيته، وحتى الملح والنوادر و"النكات" التي يُطلقاها العامة يطلب الرئيس من الطباخ أن يقصها عليه. إلى أن يضج منه كبار رجال الدولة ويطردوه من الخدمة ويخبروا الرئيس أنه اعتذر عن استمرار العمل نظراً لمرضه.
تخوفت الأجهزة الأمنية في عهد مبارك من السماح بعرض الفيلم فتحفظت عليه، فقد رأت فيه تجاوزات كثيرة وتفاصيل صغيرة لا ينبغي أن تُعرض على الجمهور، مع أن مخرج الفيلم سعيد حامد كان فطناً في إسناد دور رئيس الجمهورية إلى الممثل القدير خالد زكي - والذي فيه ملمح شبه من بعيد من حسني مبارك - وفي ظني أجاد خالد زكي لعب دور الرئيس وكان بارعاً فيه. لم تكن إجازة عرض الفيلم يسيرة لما يحمله من إسقاطات سياسية واجتماعية واقتصادية، وإنما استدعت أن يراه حسني مبارك بنفسه، ورغم رفض مسؤولين عرض الفيلم، لكن الرئيس اعتبره قريباً جداً من الحقيقة وأجاز العرض، بل أثنى عليه، ثم استقبل طلعت زكريا ليخبره بإعجابه بالفيلم مباشرة ويشيد بالدور الذي أداه، ما اعتبره الفنان أعظم تكريم له في حياته.
تقول سيرة حياة الممثل طلعت زكريا بأنه تخرج من قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون في القاهرة عام 1984، وكان عنواناً للبساطة والتلقائية والصراحة، فهو ابن بلد أصيل كما يُقال، عاش كما يعيش الناس في الأحياء الشعبية وحمل من تلك الأحياء الشيء الكثير من الأصالة والتلقائية.
يقول الكاتب المصري مصطفى عبيد في مقال منشور: لقد أدرك طلعت زكريا منذ بداية مشواره الفني في عالم التمثيل أن طريق الشهرة في الفن طويل وشاق ومتعرج، خاصة في ظل ذوق عام متقلب ومتغير، وسوق مزدحم بخليط من المواهب وأصحاب العلاقات والمصالح المشتركة. لذا لم يكن الرجل يشعر بغضاضة عندما اعترف بعمله في مهن بسيطة متنوعة خلال رحلة الصعود، طالت حتى العقد الخامس من عمره، من بينها عمله سائقاً، ومنقذ غرقى في الشواطئ، وطبالاً مع بعض الفرق الغنائية. إذا كان البعض يتصور أن تلك السنوات مثلت سنوات عذاب ومعاناة للفنان البسيط، إلا أن هناك جانبا إيجابيا لا يمكن إنكاره يتمثل في جني الفنان سمات شخصية عديدة موجودة في رجل الشارع العادي، بدءاً من اللهجة الشعبية الجذابة للعامة إلى تعبيرات الوجه المُضحكة في المواقف الصعبة أو عند المفاجأة.
أصيب طلعت زكريا في 2007 بمرض غريب ونادر ضرب شرايين في المخ، وأدى إلى دخوله في غيبوبة طويلة، وتحمله مصروفات علاج باهظة لم يتمكن من توفيرها. جاءت المفاجأة أن مبارك علم بظروف مرض الفنان وحاجته للسفر خارج البلاد للعلاج، فقرر ألا يتم ذلك على نفقة الدولة كما كان الأمر مع معظم الفنانين والمبدعين المشاهير، وإنما على نفقته شخصياً. وذكر طلعت زكريا أن مبارك تبرع من ماله الخاص بثمانية ملايين جنيه لعلاجه خارج مصر.
يمكن القول إن هذا التصرف لم يقم به مبارك مع أي من الفنانين الآخرين من قبل تقريبا، إذ كان المتبع في حالات من هذا النوع أن تقوم الحكومة بتحمل العلاج من مخصصات محددة لذلك، والطبيعي أنه كانت هناك حدود قصوى لتكاليف العلاج، وربما كان ذلك دافعاً للرئيس أن يقدم تكاليف العلاج من أمواله الشخصية، لأنه يعلم أن مخصصات علاج الحكومة قد لا تفي بعلاج الفنان.
ومن هنا فإن العلاقة بين الممثل طلعت زكريا وحسني مبارك أخذت بعداً إنسانياً ظهر مع بداية ثورة 25 يناير 2011 وقتها فكر الفنان طلعت زكريا كيف لا يساند رجلاً اعترف بموهبته وآمن بها وتعاطف معه وشجعه وأثنى عليه، وسانده عندما تعرض لمحنة مرض غريب نادر ومفاجئ.
نعم لقد ساند الممثل طلعت زكريا مبارك وعاب على المتظاهرين في ميدان التحرير ووصفهم بما لا يليق. لقد فعل ذلك -سامحه الله- والظاهر أن خياراته كانت محدودة في هذا الشأن، فانفض الناس من حوله، وتغيرت حياته.
وهذا يؤكد أن الاقتراب الشديد من السلطة السياسة مرّ المذاق، ويسهم هذا الاقتراب إسهاماً مهماً في تكبيل الفرد بأصفاد لا يمكنه الخلاص منها بسهولة. وقد جاء في الأثر أنَّ خياطاً سأل ابن المبارك: أنا أخيط ثياب السلاطين فهل تخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لا، إنما أعوان الظلمة من يبيع الخيط والإبرة أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.