ماتت الأخلاق قبل الطبيبة

13 ابريل 2020
+ الخط -
كما أدّى انتشار فيروس كوفيد - 19 إلى صحوة أخلاقية ودينية عند كثيرين، كشف أيضاً عن حالةٍ من الدونية والأنانية الشديدة عند كثيرين آخرين. وهكذا تفعل دائماً الأزمات الكبرى والكوارث التي تُعجز الإنسان، وتظهر ضعفه أمام القدر أو الطبيعة، إذ تستخرج من البشر أفضل ما فيهم وأسوأه.
ولكن السيئ الذي ظهر في حالات متعددة خلال الأسابيع الماضية، اقتصر، في الأغلب، على الجزع من الفيروس المتحول الذي تصعب السيطرة عليه، والتكالب على اللوازم الطبية والأغذية، وانشغال كل فرد بنفسه عن غيره، وإن كان غيره من المقرّبين. حالة أنانية جماعية ونزوع إلى الفردانية الاستثنائية غير العاقلة، وهي حالة معروفة في دراسات النفس البشرية والسلوك الاجتماعي. ولكن الأرجح أن أياً من العلوم المرتبطة بسلوك الإنسان الفردي والجماعي يمكنها تفسير ما وصلت إليه بعض مجتمعاتنا، أو فئات منها، في دونية سلوكياتها خلال مواقف بعينها.
لم يحدث في التاريخ البشري أن رفضت جماعة بشرية، مهما بلغت وحشيتها، دفن إنسان ميت. هذا ما حدث في مصر أول من أمس (السبت)، حيث رفض أهالي قرية مصرية في محافظة الدقهلية (200 كم شمالي القاهرة) قبول دفن طبيبة توفيت متأثرة بتداعيات الإصابة بفيروس كوفيد - 19.
كان المشهد شديد الاستثنائية، فالمكان منطقة ريفية تحكمها تقاليد اجتماعية راسخة، وعادات متوارثة عن الأجداد، ومن هذه التقاليد والعادات حرمة الموت، وأن الوفاة خطب جلل تتضاءل أمامه أي أحداث أو حسابات. ويزداد الموقف حصانةً وقدسية، حين يتعلق بوفاة سيدة أو طفل أو شيخ كبير، أي إنسان قليل الحيلة في حياته، وصار لا يملك من أمر نفسه شيئاً بعد مماته، فيكون تكريمه ومراعاة حرمته أوْلى وأكثر وجوبية، تجسيداً لقيم النخوة والمروءة. وأي تقاعس أو تقصير في ذلك يرتبط في الثقافة العربية التقليدية، بنواقص معيبة وصفات مُخزية كالخسّة والنذالة.
وما يزيد الموقف غرابة وإذهالاً، أن الطبيبة لم تصب بالفيروس عرضاً أو بعدوى من قريب لها، وإنما أصيبت به وهي تعالج مرضى به، أي بينما كانت تدافع عن حياة أمثال هؤلاء الذين رفضوا دفنها عندهم، وربما انتقل إليها بالفعل من أحدهم أو أحد أقربائهم المصابين.
التفسير المباشر لتخلي هؤلاء عن الآدمية وإسقاط القيم الأخلاقية المتوارثة خشية كل منهم على نفسه وأسرته، نتيجة الجهل باستحالة انتشار الفيروس بعد دفن المتوفى، وهو تفسيرٌ كان يمكن تفهمه، بغض النظر عن أخلاقيته، كرد فعل استثنائي في موقف خارج السياق التقليدي الحاكم للسلوك المتعارف عليه، غير أن بقية القصة تنسف هذا التفسير تماماً، إذ تدخلت الشرطة وفرّ معظم أولئك الرافضين بعد تفريقهم وتوقيف عدد منهم، ووري جثمان الطبيبة الثرى، في مدفن القرية.
لو كانت المسألة "حياة أو موتا" لما هرب هؤلاء من الشرطة، ولدافعوا عن أرواحهم وحياة أهليهم حتى النهاية، لكن المسألة لا تعدو نوعاً من ترتيب الأولويات، بتفضيل النأي بالنفس عن أي احتمال للإصابة، ولو من متوفاة في القبر، حتى وإن كان ذلك على حساب حرمة الموت وقدسية الدفن. أما حين يصل الأمر إلى مواجهة مع الشرطة، والتعرّض لمساءلة قانونية، فإن النجاة بالنفس أولى ولتدفن السيدة المصابة بفيروس.
ليس هذا سوى حصاد مُرّ لسنوات بل عقود من تسطيح العقول من حكمتها، وتسطيح الثقافة من قيمها، وتفريغ القلوب من إنسانيتها، حتى جُرفت نفوس بشر كثيرين فصارت خاوية وخربة. وإذ لم يعد لروح الإنسان قيمة ولا قدسية، فأنّى يكون للجسد أهمية. سيسجل التاريخ لأزمة كورونا أنها كشفت إلى أي هاوية تدنّت النفس البشرية، فانهزمت الأخلاق أمام الدناءة، ودفنت قبل دفن الطبيبة الشهيدة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.