ليمون بالنعناع

08 يونيو 2016

(Getty)

+ الخط -
من المشروبات المنعشة التي ارتبطت بذاكرتي وذكرياتي، وأحبها وأراها عظيمة الفائدة، عصير الليمون المبرّد، والذي تعرفت، أخيراً، على طريقةٍ جديدةٍ لإعداده، وهي إضافة ورقة من النعناع الأخضر في إبريق الخلاط الكهربائي عند مزج عصير الليمون بالماء والسكر، والحصول على مشروب "الليمونادة"، كما يُطلق عليه العامة، وأصبح يستحق عن جدارة أن يدلل بأنه "بتاع النعناع المنعنع". وكلمة ليمون عربية أصيلة، تطلق على الحبات الصفراء الصغيرة، والتي سرق اسمها إلى اللغة اللاتينية ثم الإنجليزية، وكانت زوجة خالي المصرية تدلل عصيره باسم  "الليموناتة". وسحبتنا المسلسلات المصرية نحو فائدته العظيمة، بطريقة مكرّرة ومعادة، وكأنها لازمة تلازم كل حالة غضب أو حزن أو إغماء، فيسارع ذوو البطل غالباً لإعداد كوب "الليموناتة" بسرعة، وتخرج شقيقه البطل، أو أمه أو زوجته، من المطبخ، وهي تحمل الكوب بيد، وتحرّك محتويات الكوب بالملعقة بيدها الثانية، ودموعها ومخاطها يسيلان، والجميع يستعجلها لإنقاذ البطل الذي سرعان ما يتحسّن وضعه النفسي والصحي مع رشفات عصير الليمون.

كما كل الطقوس الجميلة والعادات الأصيلة، اختفى إبريق عصير الليمون (الليمونادة)، كما نطلق عليه في فلسطين، من على مائدة رمضان، وهو الذي كانت تحرص جدتي على وضعه إلى جوارها، وأحياناً خلفها، ليكون بعيداً عن الأيدي المتسارعة إلى الطعام، بعد جوع نهار الصيام الطويل، وكانت تردّد أنه "يرد الروح". وتغطي إبريقها الزجاجي المزركش من الخارج بنقوشٍ ملونةٍ جميلةٍ بثمرة ليمون طازجة، تشكل لوحةً لا تنسى مع الزخارف التي  بدأت تنمحي تدريجياً، بسبب قدم الإبريق أو "الشاف"، لأنه من الزجاج الشفاف، وقد كانت تفعل ذلك خوفاً من سقوط إحدى حشرات الصيف الطائرة الصغيرة فيه، لكنها لم تعلم أنها تحافظ على فيتامين "سي" خصوصاً، لكي لا يفقد قيمته بفعل تعرّض المشروب للهواء. وهكذا كانت جدتي "تكسر صيامها بالليمونادة، وتتبعها بأكوابٍ من مشروب العرقسوس أو التمر هندي أو الخروب، وكلها عصائر طبيعية، تعد أحدها على التناوب في البيت، بناء على طلب جدي".

حلت المشروبات الغازية على موائد الصائمين للأسف، وأصبحت مبيعات شركة كوكاكولا في البلاد العربية في شهر رمضان تزيد عن 300 مليون دولار، حين تحوّل وجود عبواتها إلى ثقافةٍ على كل سفرة إفطار في رمضان، وأصبح كبار النجوم العرب يقدّمون إعلاناتها على القنوات الفضائية، وتتبارى الحسناوات في التمايل والرقص، وهن يحملن عبواتها المتعدّدة الأحجام، ويظهرهن مشاعر الغبطة والانتعاش، وهن يرتشفن منها بشفاههن الجميلات، المصبوغات بأفخم ماركات أحمر الشفاه. ولكن، ما يزعجني في هذه الإعلانات ليس الترويج الكبير المجنون لمشروب ذي ضررٍ صحيٍّ خطير، وليس له علاقة بتحسين هضم الطعام كما يشاع، ولكن ما يحزنني أن تظهر جدّات يشبهن جدتي يروجن مشروباً غازياً، وتسرق إحداهن عبوة صغيرة من حفيدها، وتجري بها بخفة غير متوقعة لامرأة من سنها، وكأنها قد حصلت على إكسير الشباب. وكلما شاهدت إعلاناً عن نوع من المياه الغازية تقدّمه جدة تشبه جدّتي أشعر بالامتعاض، لأن جدتي كانت مقنعةً أكثر، وبكلمتين فقط. وتروج مشروباً طبيعياً متعدد الفوائد، ومنها تقليل التهاب المفاصل الذي يصيب كبيرات السن، حتى تمنيت أن يلتهم ذئب الحكايات عجائز الإعلانات.

في اليوم الذي توفيت فيه جدتي، بسبب ارتفاع السكر في دمها، طلبت من أمي على عجل أن تعدّ لها إبريقها المعتاد من الليمونادة، وبحثت أمي عن إبريق جدتي، ولم تعثر عليه، فيما كانت جدتي تجود بأنفاسها الأخيرة، ولم تكن تعلم أن اجتماع أحفادها، في اليوم السابق، قد أفضى إلى جريمة منكرة، وهي كسر إبريقها الأثري. وهكذا، أعدت لها أمي كوباً صغيراً من الليمونادة، وحين كانت تقرّبه من شفتيها، لترتشف منه رشفةً، فاضت روحها إلى بارئها. رحلت جدتي، ولم تسعفها الليمونادة التي كانت تمتدحها دائماً بقولها إنها ترد الروح...

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.