ليست حياتي ولا حياة أحد

27 يوليو 2019
مطقع من لوحة "مشهد وطائرة" لـ كريم أبو شقرة
+ الخط -

في فلكِ "لو"

لو تدوِّنُ الورود كلامها
لكتبتْ: نحن مراسي القلوب.
لو تغنّي الطيور أُغنياتها
لصدحتْ: كلُّ الأشجار التي تؤوينا أمهاتٌ لنا.
لو تعرفُ الحجارة أوزانها
لنطقتْ: أسفٌ لمن سقطتُ عليه.
لو تفهمُ الجبال كم هي مرتاحة
لقالت: لا أريدُ ممن يراني سوى الصمت.
لو يصرخُ البحرُ من أعماقه
لأنفجرَ: خذْ مني ما يُكمِّلُ نقصانك.
لو تلتقي الأرواحِ دون أصحابها
لهمستْ: عانقونا كأننا أنتم وأكثر.
لو أضع يدي على سرِّ حياة ما
لردَّدت: هذه ليست حياتي
ولا حياة أحد...


■ ■ ■


مرايا بلا واجهات

أن نفهمَ عمقاً
ولا نراه
يعني أنّنا لن نفلسَ أبداً.

*

منّا
تبخّرَ التاريخ
وازداد الملحُ عناداً
وأصبحنا بلا غدٍ ينتظرُ.

*

تشقّقٌ
جبهاتٌ لم تعدْ تصمدُ في وجه الريح
كلامٌ منغلقٌ على الأصداءِ وضدَّ الهاوية،
كأنَّ كلّ الخرافات لم تعد مهمة.

*

من ضيقِ الروح تمزَّقَ حريرُ القلب
واستقرَ البحرُ في عيونِ طفلٍ سألهُ: لِم تمتحني؟
وتجلى الربُّ في دموعِ المؤمنين إيماناً بهم.

*

قبسٌ من فرح
يكادُ ما أرى يصبحُ أنا
طرقٌ ضلّتْ طرقها إليّ.
كأنَّ الهواء يجادلني
وأنا أُجادله:
من لي بعد نفسي
قبلي...؟

*

شكراً
لكلّ الأشجارِ التي بنتْ مجدها على يدي
واخضرّتْ وأزهرت واعتصرت ربيعاً بقلبي.


■ ■ ■


تنزّه

ليس في الكلماتِ من مخرجٍ أو انبعاث
إنما هي سلال القلب
نضعُ فيها آمالاً
ونحسبها مرايا تنبض فيها الحياة.

أتنزهُ على سطوحِ الذاكرة
أحياناً أنظرُ إليها وأتركها
وأحياناً أقطفها وآكلها
ويحدثُ أن ألعنها وأخمدها،
وفي كلِّ الأحيان: تبقى سيدتي.

أتنزهُ في تعاريج ليلٍ خلفَ قمرٍ مكسور
على الرصيف آثارُ وجهٍ يُشْبِهُنِيِ
في الشجرِ أصواتُ روحٍ صعدتْ منّي
إلى آخري أتجهُ، هائماً
في براري لغتي.

أتنزهُ فيما أتنزهُ
في صورِ الكلامِ وما قدْ يعنيه،
تلكَ حرفتي، طرقٌ في التنزّهِ والتنزيه.


■ ■ ■


ليس لي جمعٌ لأوقفَ مفردي

في مرايا صمتٍ تكدّسَ في الكلام
أرى ضوءًا يتردَّدُ
أطلُّ من داخلي البعيد على خارجي
يطلُّ عليَّ خارجي من داخلي القريب
أشهدُ أن لا هناكَ لي في هنا.

بعضُ المشاهد ترفٌ لا بدَّ منه
والبعضُ الآخر شغفٌ أصيل.
ماذا أنتظر كي أُقرّ بمرضي؟
الجبال تمتصّني دونَ أن تَمسَّني
والطيور تلهمني كأنها تعيدني إليَّ
ماذا سأفعلُ بالنشيد المُحنط في لغتي؟
أأرميه للحيوانات المفترسة في قدري، علّها تلتهمُ الصدى
وتشفى: هل من مزيدٍ
أو رأفة بعطشِ الحديد؟

صمتٌ ألقاهُ في النهرِ
يلاحقني في الطريق.

ربما أَتَعَرّفُ على نفسٍ في نفسي لم أعرفها من قبل

من غيري سَيُعَرّفُنِي؟
من غيري سَيَسكُنُ أعماقاً لم تزرني بَعْدُ؟

ليس لي جمعٌ
لِأوقفَ مفردي.

أعودُ لبيتٍ بنيته من قشِ أفكاري
وَأَعِدُ نفسي بالإخلاص للماءِ والطين.
ألتهمُ الأرضَ بمن عليها
وألتهمني بمن بي.

الفضاءُ للهواء
القمرُ للمكسورين، من فُتِنِوا حتى الفتات
الطريقُ لمن ضلَّ عن الطرق
وتحرّر حتى مات ومات ولم يمتْ في ممات...

حسرةٌ على مدنٍ لم تعِنِّي على حبِّها
على وردٍ ظلَّ على الحيادِ
حسرةٌ للفراغ المتربصِ بلغتي
متى سيتفتّحُ؟
يكونُ هو، كأنّهُ أنا قبلي...
حفنةُ هواءٍ دافئ
يسري في عروقِ الأرضِ
ربيعٌ لأغنيات.


* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون