لكنّه كان يكذب

19 يناير 2018
ضياء الحموي/ سورية
+ الخط -

أفضل ما يقوله محبّو المتنبي أنه ملأ الدنيا وشغل الناس، وهي صفة لا معنى لها في المواقف الأخلاقية والفكرية للبشر، أو يصفونه بالطموح، والطموح قد يكون مدخلاً للوصولية وانعدام الأخلاق لمن يريد أن يتكسّب أو يصعد على حساب الآخرين.

والحقيقة هي أن المتنبي أمضى حياته الشعرية كلّها تقريباً في اللحاق بالأمراء لغايات التكسّب، فقال شعراً فيمن هبّ ودبّ من الأمراء والولاة الذين اشتهر منهم سيف الدولة الحمداني. ولكننا نجد طه حسين يقول في كتابه "مع المتنبي": "إن الذلة والملق كانت أقرب الطرق إلى إرضاء الأمير"، وثمة من يردّد أن المتنبي كان يزاحم الأمراء الذين يمدحهم، وأن شعره فيهم إنما يجسد رأيه في ذاته. ويعززون قولهم بالأنفة والكبرياء اللتين عُرف بهما الشاعر.

غير أن آخرين يصفونه بالشاعر الأجير، أو الشاعر الانتهازي، ومعظم دوافعهم في العصر الراهن فكرية وأخلاقية، ويحتاج الأمر أن نفحص الاستعارة في شعره الذي مدح به كافور مثلاً للتعرّف إلى مستويات التملق والكذب والنفاق التي يمكن للشاعر أن ينحدر إليها من أجل المكاسب المادية، بل إن معروف الرصافي يقول في كتابه "نظرة إجمالية في حياة المتنبي": "إن المتنبي كان يقول للأمير إذا قتل أحداً: أحسنت أحسنت، وإذا ظلم أحداً قال: عدلت". وهذا يعني أن الشاعر كان يناصر الأمير في إجراءاته التعسفية ضد سكّان إماراته، وليس في غزواته العسكرية فقط.

وفي الغالب، فإن الموقف من المتنبي لدى من يتهم شخصيّته بالتملق والوضاعة يأخذ أحكامه من معارضة السلطة، لا من جماليات الشعر. وقد يكون هذا الموقف بالضبط دليلاً على أن الجمال الفني لا يحمي من الإدانة بالانحطاط الأخلاقي.

وأكثر ما تظهر المواقف التي تدين الشاعر في العصر الحاضر، حين بات الأدب يُعلن عن انحيازه العلني إلى جانب الفقراء والمستغَلين والمقهورين. وربما تكون واحدة من سمات الثقافة العربية المعاصرة وقوفها المعلن ضد الاستبداد، وهي واحدة من الميزات الفكرية التي عزّزت خيارات الشعر الحديث الفنية في الابتعاد عن القصيدة العمودية، واختيار التحرّر من القافية في البداية، ومن الوزن تالياً في قصيدة النثر.

نتذكر هذا فيما تشهد الثقافة العربية في أيامنا موجة التحاق ينضم فيها عدد من الكتّاب بالسلطات العربية، ويعلنون تأييدهم للحكّام. أكثرهم لا يرقى إلى مكانة المتنبي الفنية، ولكنه لا يقلّ عنه في مستوى التملق، إذ لا يزال بوسع بعض الكتّاب أن يقولوا للأمير إذا ما قتل أحداً: أحسنت أحسنت..

ولعل النفاق نفسه سوف يضع كثيراً من الأدباء العرب في زمننا أمام السؤال: من أي قاموس يستعير الكاتب المعاصر القيم التي يمدح بها الأمير؟ وهل تتطابق الخصال والمزايا التي يمكن أن يتضمّنها أدبهم عن الحاكم مع حقيقة السلطة التي يلتحقون بها؟ فالمؤكد أن المتنبي كان يكذب في شعره حين يمنح الأمراء صفات ومزايا لا تتوفر لديهم، لكن الرجل قال: "من يهن يسهل الهوان عليه". فما الذي سيقولونه هم؟

المساهمون