لقد كنّا سعداء

17 أكتوبر 2017
+ الخط -
... يدقّ الجرس، وتُفتح بوّابةُ المدرسة الابتدائيّة على مصراعيها، فيدخل الآباء والأمّهات أفواجا، ليقفوا في البهو الواسع حتّى يضيق بهم، ويعطّلوا حركة الدخول والخروج.. وفي الاتجاه المعاكس، يهجم التلاميذ الخارجون من الفصول في حالة تشبه الفرار من سجن كريه، يجرّون محافظ ثقيلةً تحمل أسفارهم... ويلتقي الجمعان،لا برزخ بينهما، في ذلك البهو المكتظّ بالرجال والنساء والأولاد والبنات.. ولا يفكّر الآباء في أن يفسحوا المجال لتيسير حركة المرور أبدا، فيظلّوا كالتماثيل الجامدة واقفين في انتظار أبنائهم، والأغرب من ذلك، أنّهم لا يخرجون على الفور عندما يجدونهم، بل يدخلون معهم في سين وجيم عن دروس اليوم والواجبات الجديدة، ما يزيد في مشقّة المستعجلين من الراغبين في مغادرة المكان.. 

أراقب ذلك المشهد الفوضويّ المتكرّر، وأنا واقف على مقربةٍ في انتظار ابنتي "أسماء" ذات الثماني سنوات، فأنزعج وأغضب وأحزن وأتشاءم.. ولا تنبسط أسارير وجهي إلاّ عندما ألمح صغيرتي، وهي تصارع أمواج الكبار والصغار، وتبحث عن ثغرات تتسرّب منها برشاقة، ثمّ يشرئبّ جيدها لتبحثَ عنّي فتراني ألوّح لها بيدي. وعندئذ تبتسم ابتسامتَها العذبةَ التي تنعش روحي، وأتقدّم لأنتشلها من ذلك الزحام الخانق، وأعود بها إلى البيت المعلّق بالطابق الثاني غير بعيد عن الأرض. 

***

تسألني أسماء: من كان يصطحبك في الطريق؟ فأروي لها ما تيسّر من ذكريات الماضي الجميل... 

لم يكن ينتظرني أحد أمام باب المدرسة.. كان جدّي يعمل كامل النهار، وجدّتي في البيت، أو في الحقل.. فكنتُ أذهب مع الذاهبين وأعود مع العائدين مشياً على الأقدام وهرولةً وعدْواً إذا تسابقنا... لا سيّارات في طريقنا، ولا ازدحام ولا شتائم من سائق متشنّج..
ماذا بقي من تلك الأيام؟.. مشاهد قليلة لا علاقة لها بالدفاتر والدروس...

كنتُ أخرج من الفصل مع رفاق الحيّ وفي عقولنا الصغيرةِ قائمةٌ طويلةٌ من المشاريع، نسابق الزمن لتحقيقها.. الكلّ يجري إلى البيت، ومن باب السقيفة يلقي بالمحفظة، ويخرج كزوبعةٍ هائجةٍ إلى البطحاء حيث نلتقي لإنجاز المشروع اليوميّ القارّ: كرة من القراطيس أو من القماش أو من البلاستيك نتنازعها لنسجّل بها تلك الأهداف التي تسعد قلوبنا.. وعندما يرتفع صوت الأذان من المسجد القريب، تنتهي المقابلة، فلا أحد منّا يجرؤ على البقاء خارج البيت بعد المغرب.

كانت سعادة ذلك الطفل الذي يكتب هذه السطور الآن أكبر من أن تصفها الكلمات... 

لا أرى اليوم أطفالا يلعبون في البطحاء... لقد تغيّر كلّ شيء.

دلالات
42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.