يقول ألبرت إينشتاين: "قيمة التعليم الجامعي لا تكمن في تعلّم الكثير من الحقائق، بل في تدريب العقل على التفكير". هي ربما مجموعة بسيطة من الكلمات يقدمها العالم الذي تخطت نظرياته عالم الفيزياء، وصبّ كثير منها في مجالات أخرى، ولا سيما الاجتماعي. مع ذلك، فإنّ تلك الكلمات تشكّل بوابة لكشف الفوارق بين منهجين تعليميين، منهج التلقين والحفظ، ومنهج التحليل والتفكير.
أول ما يتبادر إلى الذهن بينما نستعرض المناهج التعليمية حول العالم تلك التجارب الناجحة لدول مثل سنغافورة التي تعتمد في تجربتها الاقتصادية الناجحة على الاقتصاد القائم على المعرفة. والمعرفة هنا عائدة إلى التعليم الذي يتلقاه تلاميذها وينتجونه في الوقت نفسه فتتراكم التجارب في المنهاج، بدءاً من المدرسة وصولاً إلى المعاهد العليا والجامعات. تعليم في خدمة الاقتصاد. واقتصاد قائم على كمّ هائل من المعارف التي تغذيه وتطوره بفضل جهود المشتركين فيه حتى أصغر الموظفين بينهم لا رؤساء الأعمال فقط. هي تجربة لاقتصاد السوق تثبت تفوقها فيه بالذات بفضل نظامها التعليمي.
وهناك بالتأكيد التجربة الفنلندية التي تولي قطاع التعليم الرسمي، أي المجاني، أعلى أهمية، حتى يندر تسجيل تلاميذ وطلاب خارج هذا القطاع. وفي الوقت نفسه، تفرد مساحة واسعة للحس الإبداعي لدى التلاميذ منذ المراحل الدراسية الأولى. هكذا يتمكن التلميذ من معارفه التي يكتسبها اكتساباً بمختلف حواسه وملكاته الفكرية، وليس تلقيناً. يعملها في فكره، وتنشط بها مخيلته، ويحلل، ويناقش، ويشهد على تطبيقها في واقعه. فالمعرفة مهما حلقت لا بدّ من ربطها بواقعها الاجتماعي، كما يحدد عالم الاجتماع كارل مانهايم.
لكنّ التلقين هو الأساس في معظم مؤسساتنا التعليمية العربية. وبعد التلقين تسميع. وبعد التسميع إشادة ونجمة لاصقة على الرأس لطفل يردد ببغائياً ما سمعه من مدرّسه أو قرأه في كتابه مهما كان بالياً أو تافهاً أو غير علمي حتى. وإن لم تكن الإشادة كان العقاب الذي تتعدد أشكاله بحسب كلّ بلد. فبينما ألغت بعض الأنظمة التعليمية الضرب والإهانة المعنوية، ما زالت أنظمة أخرى تعتمدهما، بل إنّ بعضها قد يتراجع عن إلغاء جلد التلاميذ حتى، تبعاً لتصريح رئيس الدولة نفسه أنّه تعرض للجلد حين كان تلميذاً، مضيفاً أنّ "إلغاء العقوبة ينمّي في التلاميذ الحرية المفرطة، وصولاً إلى التطاول على المدرّس".
هو أيضاً الخوف من تلك "الحرية المفرطة" الذي يستوجب اعتماد التلقين وحده، حتى في جامعاتنا، ولو في مرحلة الماجستير. التفكير خطير عربياً، ومن يفكر عليه أن يتحمل عواقب ذلك، وهي عواقب لا تقتصر على الجلد.