23 يناير 2020
لاجئون ومهاجرون.. ومع حق العودة
ندفع باباً مفتوحاً، حين نتحدث عن صعود أحداث اللاجئين، ومعظمهم من السوريين، إلى مرتبة القصة الأولى عالمياً، فلا شك أن كل ما يتعلق بهم صار الشغل الشاغل للهموم السياسية والإعلامية، أوروبياً وعربياً، وإلى حد ما عالمياً. وارتبط الصعود بتكرار حوادث الغرق المأساوية لمن ركب منهم زوارق التهريب، بقصد دخول أوروبا، أو لمن مات داخل شاحنة التهريب في النمسا، ما أدى إلى انفجار التعاطف الإنساني عند جماهير المتظاهرين في أكثر من بلد أوروبي، وخروجهم في مظاهراتٍ ترحب بقدوم اللاجئين. كما انعكس في قرارات حكومات غربية، تميزت في مقدمتها ألمانيا والنمسا، وفيها قدمت تسهيلات جديدة لدخول اللاجئين واستيعابهم. وبلغت قمة ذلك التعاطف أوجها، بعد نشر صورة الطفل السوري الغريق (عيلان) والتي تحولت إلى رمز عالمي لمأساة اللاجئين، ارتفع التعاطف معه إلى مرتبة اليقظة الأخلاقية الجديدة، والتي دفعت موجات رفيعة من التضامن مع أوضاع اللاجئين، تمثلت في مبادرات فردية غزيرة، وتعبيرات تظاهرية ممتدة إلى جانب تضامنات عديدة من مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية وغيرها، ثم برزت في إلغاء الحكومة الألمانية الشرط الأساسي (بصمة دبلن) أمام دخول اللاجئين، وتخصيص ستة مليارات يورو لاستيعابهم، الأمر الذي تبعته قرارات أوروبية أخرى، ترحب باستيعاب مزيد منهم، وإن لم ترق إلى المستوى الألماني، لأسباب اقتصادية واجتماعية متوفرة.
هكذا، يبدو أن المجتمع الدولي، والأوروبي الغربي تحديداً، استيقظ أخيراً، وهو يحاول القيام بواجبه تجاه قضية اللاجئين، والذين صار قسم منهم مهاجرين، راغبين في حياة ومستقبل أفضل لهم ولأولادهم، بعد أن عانوا الأمرّين في بلادهم الفاشلة، إلى جانب القسم الأعظم من اللاجئين الذين خرجوا من بلادهم، وخصوصاً منها سورية، هاربين من الموت والعنف اللامحدود، فضلاً عن الإهانة والذل، وكل أشكال الحيونة المبتكرة لمليشيات الأنظمة. صحيح أن هذه اليقظة، وخصوصاً على مستوى الحكومات، تستجيب مستقبلاً لحاجات اقتصادية واجتماعية، لا تخفى على الملاحظين، ومنها تباطؤ النمو الديمغرافي والحاجة إلى اليد العاملة في البلدان المعنية، وأنها تخضع مجدداً لاعتبارات تمييزية، مثل اشتراط رئيسي بلديتين فرنسيتين قبول اللاجئين من الديانة المسيحية فقط. لكنها، في الواقع، وفي هذه اللحظة، تأتي استجابة لضغط أخلاقي، قام به الرأي العام والمجتمع المدني الأوروبي قبل كل شيء.
وإذا كان من الطبيعي أن نتساءل عن أسباب تأخر هذه اليقظة الأخلاقية وانتظارها الطويل، بعد آلاف الغرقى والموتى والمهانين والمتسولين، حيث تستمر المأساة السورية منذ أكثر من أربع سنوات، وحيث قتل النظام أكثر من 300 ألف سوري، ويعتقل ما يماثلهم أو أكثر، كما دمّر حوالى نصف عمران سورية، وأرجعها إلى ما خلف حياة القرون الوسطى، بمشاركة أو توزيع أدوار مكشوف مع صنوه الجديد الداعشي، وبدعم حثيث وعلني من حليفيه، الإيراني والروسي، وتحت سمع العالم وبصره، إذا كان من حقنا أن نتساءل، فيمكن لنا أن نلاحظ أن هذه اليقظة لم تتحرك، إلا بعد أن اخترق اللاجئون حدود أوروبا وبموجات جماعية، وأن إعلام النظام وحلفائه نجح سابقاً في إيقاظ فوبيا الإسلام، ودمجها بفوبيا الإرهاب الجديدة التي ساهم بعض ثوارنا ومعارضينا بردود أفعالهم العفوية والغريزية في تعزيزها. كما لنا أن نعترف بتأثير الصورة البسيطة، لكن الحاسمة، للطفل السوري الغريق عيلان، إلى جانب صورة موتى شاحنة التهريب، في مقابل الفشل المريع لإعلام الثورة والمعارضة في التكرار النمطي والجزئي والغرق في المبالغات السوقية في أحيان كثيرة.
وفي هذا المجال، يمكن القول: حسناً، تحاول أوروبا أن تقوم بواجبها تجاه اللاجئين. لكن، علينا ألا ننسى أن هذا الواجب مازال محدوداً تجاه الملايين الأخرى التي تعيش في المخيمات، أو ما أشبه بالمخيمات في كل البلدان حول سورية، وأن حياة هذه الملايين تدهورت في جميع مستوياتها الإنسانية، خصوصاً في فقدان تعليم أطفالها أو انحدار ما هو متحقق منه، ما يثير أسئلة خطيرة حول مستقبلهم وتطلعاتهم، وما يمكن أن يجعل منهم وقوداً لردود أفعال، لا يستبعد أن تكون الجريمة والإرهاب شر مستفيدين منها. لكن ذلك كله لا يجوز أن يدفعنا إلى نسيان التساؤل الأكثر أهمية، والذي يبدو أن العالم، وأوروبا في مقدمته، يتناسيانه، وهو أن قضايا اللاجئين، أو المهاجرين، إنما هي مجرد نتائج ينبغي معالجة أسبابها، أولاً وأخيراً.
حسناً، إذن، هناك يقظة تجاه قضايا اللاجئين، والسوريين منهم خصوصاً، ويعبر العالم بذلك عن عجزه تجاه حل المشكلة السورية، أو هو يعبّر عن ملله منها، وينصرف إلى معالجة المشكلات الراهنة على حدوده، وهي أمور إنسانية لا يجوز تأخيرمعالجتها، على طريقة أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.
لكن، من الضروري أن لا يدفعنا ذلك إلى إغفال أن النظام السوري، وحلفاءه ووجوهه المتعددة، هم أصل البلاء وسببه المستمر، فهم الذين أنتجوا مشكلة اللاجئين، وسينتجون المزيد منها، طالما تأخر حل المشكلة السورية، وطالما وجد فيها المتدخلون واللاعبون الدوليون استثماراً ومصلحة ما. كما أن علينا ألا نغفل عن مأساة السوريين في الداخل الذين صارت حياتهم جحيماً مستمراً، تحت رحمة شبيحة النظام وغلاء تكاليف البقاء على قيد الحياة، وشظف عيشها في ظل العنف المستشري، والذي أضاف له داعش وأشباهه جحيماً آخر فوق جحيمه.
الغريب إلى درجة النكتة السوداء في هذا المجال، وإلى درجة الوقاحة السافرة، أن مسؤولي النظام وحلفاءه ينتقدون، علناً وبصورة رسمية، الحكومات الغربية على تقييدها دخول اللاجئين، ويطالبونها بمزيد من التسهيلات أمام ذلك، كأنهم متفرجون، ولا علاقة لهم ولا مسؤولية، بينما هم عملياً يرتكبون جريمة التطهير الطائفي، في دفع ملايين الشعب السوري، وهم غالباً من طائفة محددة، إلى اللجوء والهجرة خارج سورية، بينما ينبغي جرّ هؤلاء المسؤولين، ومحاسبتهم على تلك الجريمة أمام محكمة الجنايات الدولية في أقل تقدير.
وقبل ذلك كله، ينبغي التأكيد على أن هؤلاء اللاجئين، أو المهاجرين، هم مواطنون سوريون لهم حق العودة إلى بلدهم، حالما يفتح طريق التغيير، وحالما تنتهي المحنة التي أجبرتهم على اختيار ذلك الطريق.