كيف حققت تركيا التنمية المتوازنة؟

14 سبتمبر 2020
الإنتعاش يعود للسوق المركزي في إسطنبول
+ الخط -

تقوم نظرية التنمية المتوازنة على فكرة جوهرية مفادها أنه من أجل توليد التطور يجب أن تتوزع الاستثمارات في الوقت نفسه وبصورة متوازنة على جميع القطاعات الاقتصادية، وفي مختلف أقاليم الدولة.

وبذلك فإن السعي المخطط لتحقيق التنمية يجب أن يشمل القطاعات الاقتصادية الثلاثة، الصناعة والزراعة والخدمات، من خلال بناء هياكل إنتاجية قادرة على النمو والتطور المستدام، انطلاقا من الموارد والإمكانات الذاتية، البشرية والمادية للمجتمعات المحلية، وبما يفيد كل الفئات الاجتماعية، في مختلف أرجاء الدولة.

ومن هذا المنطلق تصور المؤشرات الاقتصادية الكلية مجموع عوائد هذه القطاعات، بينما تشير المؤشرات القطاعية ومكوناتها إلى التوازن بين القطاعات الذي يضمن الحيوية والديناميكية الاقتصادية، كما يؤكد الانتشار الجغرافي لمشروعات تلك القطاعات على هذا التوازن المنشود.

الزراعة

تشير المؤشرات الاقتصادية التركية إلى التخطيط الممنهج لإحداث هذ التوازن بين القطاعات والأقاليم، فالقطاع الزراعي التركي أصبح يحتل المركز السابع عالميا على المستوي الإنتاجي، بعد الطفرة الضخمة التي حققها الإنتاج الزراعي الذي زادت قيمته من أقل من 40 مليار دولار عام 2002 إلى نحو 60 مليار دولار بنهاية عام 2019، وهو ما أدى إلى زيادة الصادرات الزراعية من 3.7 مليارات دولار إلى 17.7 مليارا خلال الفترة نفسها.

كما أن تركيا تمتلك خططاً أكثر طموحاً للقطاع الزراعي، إذ تهدف بحلول عام 2023 إلى أن تكون من بين أكبر خمسة بلدان إنتاجاً زراعياً على مستوى العالم، بالوصول بقيمة الناتج الزراعي المحلي إلى 150 مليار دولار، ومضاعفة الصادرات الزراعية إلى 40 مليار دولار، وزيادة الرقعة الزراعية إلى 8.5 ملايين هكتار، مقارنة بنحو 5.4 ملايين هكتار.

كما أن هذا التوازن امتد إلى القطاعات المكونة للقطاع الزراعي. فطبقا لوزير الزراعة، شهدت السنوات الـ17 الماضية تقديم دعم بقيمة 2.5 مليار ليرة لقطاع البذور، ويتم اليوم تصدير ما يقرب من 255 مليون دولار من البذور، ومن المستهدف زيادتها إلى نحو 500 مليون دولار بحلول 2023، بخلاف إنتاج 18.5 مليون طن من الحليب في عام 2018، بالإضافة إلى التخطيط لاحتلال المرتبة الأولى في تصنيف مصائد الأسماك بالمقارنة مع الاتحاد الأوروبي.

الصناعة

علي صعيد التوازن داخل القطاع الصناعي، المورد الأهم للعملة الصعبة، بلغت عائدات صناعة وتصدير السيارات وقِطَعها قرابة 32 مليار دولار خلال عام 2019، كما بدأت تركيا فعلياً إنتاج سيارتها المحلية بنسبة 100% مطلع هذا العام، وزادت صادرات الملابس إلى 17 مليار دولار، كما بلغت صادرات الصناعات الدوائية 1.17 مليار دولار في عام 2018، بينما بلغت صادرات المصنوعات الجلدية قرابة 1.7 مليار دولار عام 2019.

وحققت تركيا قفزات هائلة في صناعة الأسلحة، وبلغ حجم صادراتها 18.3 مليار دولار بين عامي 2002 و2018، في حين وصلت المبيعات الكلية إلى 64.9 مليار دولار، كما تفوقت تركيا في إنتاج الطائرات المسيرة، وبدأت طلبات استيرادها من الكثير من دول العالم.

الخدمات

في مجال الخدمات، بلغ عدد السياح إلى تركيا نحو 50 مليون سائح في العام الماضي، بعوائد قاربت 35 مليار دولار، وتتنوع السياحة لتشمل بجانب السياحة الثقافية والشاطئية والعلاجية البالغة عائداتها 5 مليارات دولار، ويتطلع القطاع الطبي إلى توفير 20 مليار دولار من عائدات السياحة بحلول عام 2023، بالإضافة إلى السياحة التعليمية، حيث يوجد أكثر من 150 ألف طالب أجنبي يدرسون في الجامعات التركية، إلى جانب تركيز البلاد علي سياحة المؤتمرات، والسياحة الرياضية، حيث الترويج لمعسكرات الفرق الرياضية الكبري في العالم، واستضافة أهم الأحداث الرياضية العالمية على أراضيها.

الخدمات الصحية

وبالنسبة لقطاع الخدمات الصحية، زاد عدد المستشفيات العامة التركية من 1156 مستشفى في عام 2002 إلى 1520 عام 2016، كما ارتفع عدد الأسرّة في المستشفيات من 164 ألفاً عام 2002، إلى 232 ألفاً في 2017، فيما وصل عدد غرف العناية المركزة في 2017 إلى 36 ألفاً و609 غرف، بعدما كان ألفين و214 غرفة عام 2002.

وبنت الحكومة التركية مجمعات المستشفيات والمدن الطبية العملاقة، وتصل القدرة الاستيعابية لتلك المدن الطبية مجتمعةً إلى 12 ألفاً و100 سرير، وتضمّ ألفين و831 عيادةً، وألفاً و999 سرير عناية مركزة، و410 غرف عمليات، وتستخدم أحدث التقنيات.

وتوزعت هذه المجمعات الطبية العملاقة بصورة متوازنة على المدن المختلفة، في أنقرة وإسطنبول وأضنة ومرسين وغيرها، وهو ما يدلل على حرص الحكومة على التوزيع التنموي المتوازن للخدمات الطبية.

النقل والمواصلات

بالإضافة إلى ما سبق، عمدت الدولة إلى إنشاء شبكة نقل ومواصلات حديثة تربط كل الأقاليم، كما توسعت في وسائل النقل الداخلي من باصات وشبكات ترام وغيرها، ولا توجد فوارق تذكر بين مستوى الخدمات المقدمة للمواطن في العاصمة أنقرة أو في العاصمة التجارية إسطنبول وبين نظيراتها في المدن الحدودية.

التنمية فعل حضاري شامل ومتكامل، هدفه الارتقاء بالمجتمع إلى مستويات أعلى من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وغيرها من جوانب النشاط البشري، بما يصب في النهاية في رفاهية الإنسان وسعادته.

ويشير الاستعراض السابق لمؤشرات الاقتصاد التركي القطاعية، وحتى المؤشرات المكونة للقطاعات، إلى اهتمام كبير من الإدارة التركية بالمفهوم الشامل للتنمية، وبالتنمية المتوازنة على وجه الخصوص.

فلا يكاد الباحث حول التجربة التركية يجد مجالا سقط من التخطيط والإنجاز، ولا يعني ذلك أن الاقتصاد التركي لا يعاني من مشكلات أو أنه قفز بالمواطن إلى مصاف مواطني الرفاهة الأوروبية، ولكنه يشير إلى أن المفهوم الشامل والمتوازن للتنمية يضع الدولة على الطريق الصحيح، وأن ثمار البرامج المخططة بعد العمل الدؤوب على إنضاجها لا بد أن تتساقط على المواطنين.

كما أن الطريق إلى إنضاج ثمار التنمية لا بد أن يرتكز على مجموعة من الركائز الأساسية الحاضنة والمحفزة، ومنها المواطنة الفاعلة، والتي تعني الشراكة والمسؤولية المتبادلة بين جموع الفاعلين في العملية التنموية، وكذلك التفوق التشغيلي الذي يعد ضمانة للنمو، والذي يتطلب الاستثمار في الرأسمال البشري وتعزيز إمكاناته، بالإضافة إلى التحسين المستمر في عمليتي القيادة والإدارة، وهما الركيزتان اللتان توفرتا في الحالة التركية إلى حد كبير.

إن عملية التنمية هي عملية جماعية تتآلف وتنسجم ليس مكوناتها فقط، وإنما كذلك أجزاء هذه المكونات، ويجب أن تتحرك تلك المكونات وجزئياتها ضمن سياق عام يضمن التغذية المتبادلة بين الكل والأجزاء، ولا يمكن نجاح عملية التنمية إلا باعتبارها ذلك العمل المركب الشامل لمجموع الأجزاء.

وحتى يتحقق ذلك، لا بد من تناغم الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث تخدم بعضها بعضا، كما يجب أن يتوازن ويتوازى النمو القطاعي والإقليمي داخل الدولة، بما يحقق التكاملية المنشودة، والتي تصب في النهاية في ثمار تنموية مستدامة، أنضجت تركيا بعضها، ولا تزال تحتاج إلى عمل دؤوب لإنضاج البقية.​

المساهمون