كيف تعلَّم أبي القراءة والكتابة؟

07 مايو 2019
+ الخط -
صورة باقية في ذاكرتي عن أبي يجلس في حديقة منزلي في "حي البيطرة" قبل ساعات من رحلة الرحيل عن مدينة إدلب في الشمال السوري في خريف عام 2016..

كان يتعكَّز علينا وعلى عكَّازه، برحيلنا عن ديارنا صار وحيداً مع عكَّازه الخشبي. فكَّرنا في أن يُرافقنا في رحلة الرحيل تلك، لأنه كان يرتعب من قصف الطائرات، ولكن المهرِّب استهجن الأمر ورفض بشدة أن يُرافقنا هذا "الختيار"، إذ كان في السادسة والثمانين من عمره، قائلاً: رحلة التهريب من قرية "خربة الجوز" الجبلية السورية على الحدود مع تركيا أصعب مما تظنون.

وخيراً فعلنا، لأنها كانت بالفعل رحلة شاقة لا يمكنه الصمود أمام عثرات طريقها ووعورة مسالكها وطول دربها، كان يوماً أطول من قرن على حدِّ تعبير الكاتب القرغيزي جنكيز أيتماتوف في روايته "ويطول اليوم أكثر من قرن"، لذلك بقي في منزله مع من بقي من أخوتي وأخواتي. وأبو الطيب المتنبي - رحمه الله - يُؤكد: لَكِ يا منازلُ في القُلوبِ منازلُ/ أقفَرْتِ أنْتِ وهنَّ منكِ أواهِلُ

راشد دحنون 


(1)

الحادثة التي أجبرت والدي على تعلُّم القراءة والكتابة تعود إلى عام 1949 عندما ذهب لخدمة العلم - العسكرية - في دمشق العاصمة السورية، وهو من مواليد 1930 - مدَّ الله في عمره - وكان الجيش السوري في طور التكوين تلك الأيام. وبعد الانتهاء من دورة "الأغرار" طُلب من الجنود في ساحة المعسكر أن يتوزعوا في مجموعتين: من يعرف القراءة والكتابة في المجموعة الأولى، ومن لا يُحسن القراءة والكتابة في المجموعة الثانية.. فماذا فعل أبي يا سادتي؟ انتظم مع المجموعة الأولى التي تُحسن القراءة والكتابة!

(2)

اصطفَّ جنود المجموعة الأولى في رتل أمام ضابط يجلس خلف طاولة عليها جرائد ومجلات. كان أبي في آخر الرتل تقريباً، وكان الطقس بارداً، فرفع قبة معطفه العسكري حتى غطت رقبته ونصف وجهه. يتقدَّم الرتل على مهل، يقرأ المُتقدم ما تيسر من سطور الجريدة، ومن ثمَّ يفرزه الضابط إلى تشكيل ما في الجيش. وحين صار أبي وجهاً لوجه مع الضابط نظر هذا الأخير إلى الشاب الواقف أمامه والغاطس وجهه في قبة معطفه، فسأله:
- ما اسمك؟
أجاب:
- راشد دحنون.
- من أين أنتَ يا راشد؟
أجاب:
- من مدينة إدلب في الشمال السوري.
قال الضابط:
- خذ، هذه مهمتك، ستعمل مراسلاً حربياً بين القيادة والأركان!

وهذا ما كان. عمل أول الأمر دورة تدريبية على دراجة نارية "موتور" بثلاث عجلات - من تلك التي تظهر في الأفلام التي تحكي عن الحرب العالمية الثانية - ومن ثمَّ صار مراسلاً حربياً بين قيادة الجيش وأركانه في دمشق، وكان أميَّاً لا يقرأ ولا يكتب.

(3)

كان في شبابه وسيماً - وما زال في نظري - يحب الموسيقى ويُحسن الغناء، فتقدَّم في تلك الأيام إلى إحدى مسابقات الغناء في إذاعة دمشق وفاز مع الفنان السوري من مدينة حماة على نهر العاصي "نجيب السراج" في هذه المسابقة.

عُيِّن نجيب السراج مطرباً في إذاعة دمشق وصار معروفاً للقاصي والداني. ورفض جدي عثمان دحنون أن يعمل ابنه مغنياً! - أصلحك الله يا جدي - المهم، نعود إلى مراسلات القيادة والأركان. كيف سارت أمور مراسلاته؟ كان يسأل دائماً، ويحفظ في الذاكرة هذا "الظَّرْف" الكبير الأصفر لمن والصغير الأبيض لمن. تدبَّر أمره في البداية، ولكن الأمور تعقدت مع كثرة البريد بين القيادة والأركان.. ما العمل يا أبي؟

(4)

في تلك الأيام كان أهل الصناعة في سورية على دراية وفطنة، فكان معمل "ناشد" يُنتج "كرميلة" مشهورة في أنحاء سورية كلها، و"الكرميلة" لمن لا يعرف هي "سكاكر العيد" وكانوا يُغلفونها بورق ملوَّن كتبت عليه أحرف الأبجدية العربية بأشكالها الثلاثة، الحرف في أول الكلمة وفي وسطها وفي آخرها. اشترى راشد دحنون "كيلو" من تلك "الكرميلة" وراح "يتَحلَّى" بالسكاكر ويتسلى، ويتلهى، بحفظ حروف الأبجدية مستعيناً بالسابلة في لفظ الحروف.

حتى جاء اليوم الذي أتقن فيه الحفظ وربط الأحرف والكلمات بعضها ببعض بعد جهد ومثابرة. كانت الحاجة إلى التعلّم تدفعه دفعاً.. تعلَّم القراءة والكتابة وأتقنها بصورة جيدة في أول أيام عيد الأضحى عام 1950، واستغنى عن مرِّ السؤال.. وكلّ عام وأنتم بخير.
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.