الكتابة عن أم كلثوم محيّرة للغاية حتى وإن اخترنا تلك الفترة المحدودة منذ بدئها احتراف الغناء من خلال الأدوار القديمة والطقاطيق والمونولوجات، وصولاً إلى الأربعينيات؛ إذ اتجهت إلى الأغاني الطويلة التي حققت لها الجزء الأكبر من شعبيتها، والتي طغى انتشارها مع مرور الوقت وتأثير عوامل عديدة، أهمها توفّر وسائط التوثيق والتخزين أكثر من المرحلة السابقة.
لذلك، لا بدّ من التوقّف عند تلك الفترة المتمثّلة بأبرز الشخصيات التي حضرت فيها؛ أي الملحنين الذين عملوا مع أم كلثوم قبل الأربعينيات.
عندما نستمع إلى أم كلثوم في أدوارها القديمة والطقاطيق والمونولوجات، نجد شخصية مختلفة تماماً لصوتها من حيث بصمته، ومخارج ألفاظها، واستخدامها للنغمات، إلى جانب استعراضها للطبقات الأعلى ضمن مساحة صوتها الواسعة التي وفرتها لها بطبيعة الحال نشأتها وتدربها على القرآن والموشحات الدينية.
يتضح هذا بشكل كبير في أغنيتها "خايف يكون حبّك ليّ"؛ أول ما كتبه لها أحمد رامي بالعامية، ولحنها أحمد صبري النجريدي، كعادته في وضعِ موسيقاه، إذ يعمد على استعراض طبقات الصوت الحادة، حتى يكاد يصعب تمييزه عن آلة الكمان.
لحنٌ آخر وضعه النجريدي، من شعر علي الجارم، أغنية "مالي فُتنت"؛ لكنه اهتمّ أكثر بمجاراة طريقة الغناء النسائي الشائعة آنذاك، أكثر من اهتمامه في شخصية الصوت الذي لحّن من أجله، رُغم افتتانه به.
شخصية صوت أم كلثوم التي تبلورت فيما بعد من ناحية مساحاتها الصوتية المتميزة، بدأت من ألحان معلّمها الأوّل، الشيخ أبو العلا محمد، الذي اتّسم بكلاسيكيته. إذ بدا صوت أم كلثوم في أغلب أعماله ذا مذاق آليّ الأداء، أكثر من كونه حاملاً للمعاني. ربما يرجع ذلك إلى حداثة سنّها أو تجربتها، كما يظهر في أغنية "أفديه إن حفظ الهوى".
وإن كان صوت أم كلثوم يبدو أكثر نضجاً من حيث الشخصية المميزة له ومساحاته الصوتية في أعمالها مع أبو العلا، إلا أن إحساسه يبدو أكثر عمقاً في أعمال الشيخ زكريا أحمد. ومرد ذلك إلى الفارق الزمني بينهما، وطبيعة البناء الدرامي المتين والمتنوع لألحان زكريا الذي كان ذكياً في توظيف صوت الست في المنطقة المُميِّزة له؛ أي "الباص" bass، التي تقارب صوت الرجل وتتداخل مع مساحاته، ويتضح ذلك فى دور "إمتى الهوى".
كما تميز زكريا بجمله الغنائية القصيرة في مقابل الجمل/ الجسور الموسيقية الطويلة المتوقعة، واستخدامه للطبقات المنخفضة من صوت الست، إلى جانب الكورس الذي ضمنه في بعض التسجيلات، وأشهر أدوراه "ياللي بتشكي من الهوى".
أما داود حسني، المحافظ دائماً في ألحانه، فلم تغرِه شخصية صوت الست بتغيير البناء المعتاد للأدوار والمونولوجات من جهة الثيمة المتكررة في الدور أو جمل الرد الموسيقية على الجمل الغنائية. ويبدو ذلك جليّاً في "البعد علمنى السهر" و"يوم الهنا حبي صفالي".
لا مبالغة إن قلنا إن محمد القصبجي يكاد يكون الوحيد الذي استطاع الظهور بأكثر من شخصية من خلال ألحانه لأم كلثوم. فتارةً يطل علينا بصفته الملحّن الكلاسيكي، في عملٍ متوقّع الجُمل؛ لكنه بديع وجمله تعبيرية واستعراضية لكلّ من إمكانياته والمساحة الصوتية للست، مثل مونولوجيّ "خلي الدموع" و"قلبك غدر بي".
وتارةً أخرى، يطلّ بوصفه الملحن الخفيف المُواكب للغناء الأقلّ دسماً في ذلك الوقت، مثل عمله في طقطوقة "ما تروّق دمك". وفي "يا بهجة العيد السعيد"، نتعرف إليه كصانع لأغاني الفرح القصيرة.
وفي أعمال أخرى، نجده موسيقياً تجريبياً، مثل "ليه تلاوعني"؛ إذ قدّم صوت أم كلثوم الحقيقي الناضج في قالب تجريبي بإيقاع مختلف عن السائد في ذلك الوقت، يُجسّده سطر الكونترباص المزدوج مع حفاظه على البنية التقليدية لجسم اللحن من مقدمة غليظة ثم كوبليهات، إلى أن يصل الصوت إلى ذروة مساحته الحادة فيها، ثم الختام.
على العكس من ذلك، يأتي لحن "ياللي جفاك المنام" بجمله التعبيرية الطويلة؛ مقدّماً فيه استعراضاً لافتاً لصوت الست ومساحته بشكل أثقلَ تعبيرية الجمل اللحنية وجعلها عسيرة.
لم تكن تجربة رياض السنباطي في هذه المرحلة طويلة، بل قصيرة للغاية إذا ما قارنّاها بتجربته في تلحين الكثير من الأغاني والقصائد الطويلة للست لاحقاً. ولعلّ هذا ذكاءً منه؛ إذ أدرك أين نقاط قوته وضعفه، بعد أن جاءت أغلب محاولاته شبيهةً بألحان القصبجي، لدرجة أن بعضهم ما زال ينسب ألحاناً للأخير مثل "قضيت حياتي" و"النوم يداعب عيون حبيبي"؛ لقربها من روح وأسلوب القصبجي.
قلّة يعرفون أن أم كلثوم وضعت لنفسها لحنين في أوائل الثلاثينيات لأغنيتيّ "يا ريتنى كنت النسيم" و"على عينى الهجر"، وكانا تقليديين للغاية.
لكنّها، من جهة أخرى، أبدعت في دورها كمؤدية ومغنية ممتلكة لقدرة الارتجال الموسيقي أثناء الغناء رغم صعوبته، وهذا يُعتبر نوع آخر من التلحين؛ إذ لعب تاريخها القديم من التلاوة والإنشاد وحفظ المقامات واجتهادها الذاتي، إلى جانب معلميها، دوراً في امتلاك هذه القدرة واستثمارها حتى أثناء تسجيل الأسطوانات للأدوار القديمة، حيث تتجلّى قيادتها بصوتها للموسيقيين على العود والكمان، وارتجالها في إعادة الجمل للتنويع و"السلطنة"؛ وكأنها ترسم منحنى هندسياً لا يعرفه سواها، وتقود الموسيقيين إليه ببراعة، تأكيداً للمعنى وإضافة إلى اللحن الأصلي، كما نلاحظ في "أكون سعيد" لزكريا أحمد.
في المقابل، تأتي الارتجالات في الأغاني الطويلة استجابةً لرغبة الجمهور كاستعراضاتٍ قصيرة غير موفّقة، تصاحبها محاولات متعثّرة من الفرقة الموسيقية التي تتلمس طريقها لمساندة الصوت المتمكّن والحائر للحظات.
انتهت مرحلة الأدوار والطقاطيق القديمة؛ لتبدأ المرحلة التي سعت من خلالها الست إلى ملحني عبد الحليم، وإلى الصداقة "اللدودة" مع عبد الوهاب، بحثاً عن جماهيرية أوسع لم توفرها لها المرحلة السابقة، لتنطلق حقبة أخرى اشتملت على الأغاني الطويلة التي نعرفها جميعاً على اختلاف أعمارنا، وتبقى حتى اليوم وصلات الست.
* فنانة من مصر