كان لأم كلثوم نصيباً وافراً من عناية هؤلاء، الذين شهّر بعضهم بالشيخ يوسف القرضاوي بعد أن نُشر على لسانه تصريح قال فيه إنه يطربه غناء أم كلثوم لبعض القصائد. ثم وصلت حالة هذا التيار بأن قدّم بعض باحثيه دراسة شرعية متخصصة في "الست" تحت عنوان: "عذاب أم كلثوم في قبرها.. بين الشرع الحكيم والعقل السليم".
كان الشيخ كشك أشهر من تعرّض لأم كلثوم بالنقد، وذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكانت أسبابه تعود إلى نظرة خاصة به هو الذي سأله عمار الشريعي - وكان صديقاً حميماً له - عن سبب هجومه عليها، فأجابه: "شَتَمْتُ من أحبُّ لأنها قالتْ ما لم أحبّه"، مضيفاً: "لم أتصور أن الصوت الذي غنى عظائم السنباطي و"نهج البردة" و"إلى عرفات"، يقول: هات إيديك ترتاح للمستهم إيديا!".
كما أن موضوع العدالة الاجتماعية قد أخذ من رصيد أم كلثوم عند كشك، فقد روى الشيخ قصة "كلب" أم كلثوم الذي عضّ أحد المواطنين، فتغاضى المُحقق بقوله: "إن السيدة أم كلثوم ثروة قومية لا تعوّض؛ لذا ينبغي ألا نوجه إليها اللوم أو العتاب".
وهي ذات القضية التي كتب فيها أحمد فؤاد نجم قصيدته المشهورة "كلب الست"، وفيها: "هيص يا كلب الست هيص.. لك مقامك في البوليس"؛ أي أن "البائسيَن اجتماعياً"، كشك ونجم قد اتفقا على نقد أم كلثوم في هذه المسألة. ويشهد الشاعر أحمد شفيق كامل أن كشك كان "سميّعاً" للأغاني بدرجة تفوق الامتياز، ولديه تذوّق عالٍ للنغمة الموسيقية الجميلة، والكلمات الحلوة.
الشيخ محمد الغزالي أيضاً ذكَرَ أن أحد تلامذته استنكر عليه سماع أم كلثوم، فأجابه الغزالي بإباحة الغناء الذي ليس فيه فحش ولا يثير الشهوة. وقال لتلميذه: أنا أسمع أم كلثوم وهي تغني قصيدة أحمد شوقي الشهيرة "ولد الهدى فالكائنات ضياء، وفم الزمان تبسم وسناء".
وكان ترصّد له بعض شباب الحركة الإسلامية في إحدى الندوات، التي كان يدور موضوعها حول "سر تأخر العرب والمسلمين وتخلفهم"، ظناً منهم أن الشيخ سيُحرج عندما تُعلن على الملأ "فضيحة" أنه يبيح الغناء. وحين سعى أحد هؤلاء إلى توريط الشيخ بالسؤال: هل الغناء حلال أم حرام؟ أجابه الشيخ بسرعة بديهة: "عاوز تغني على خيبة إيه؟".
أما الشيخ علي الطنطاوي، فقد كان يوازن بين صوت فيروز وصوت كوكب الشرق. غير أنه سيميل إلى أم كلثوم لأن غناء فيروز يشبه "غزل البنات" الذي سرعان ما تذوب حلاوته في فم الأطفال ولا يبقى أثره، بينما غناء أم كلثوم أبقى أثراً في النفس والذاكرة.
يقول الطنطاوي في مذكّراته: "كنت أسمع وأنا في الفندق أغنية لأم كلثوم لا أحفظ منها إلا كلمات "مين بحبه شاف هنا زيي أنا"، من تلحين زكريا أحمد، وقد لحن لأم كلثوم كثيرون، لكن أطرب ما غنته ما لحنه الشيخ زكريا".
وكما كان المتعصبون يفعلون مع الغزالي كانوا يفعلون أيضاً مع الطنطاوي؛ إذ أرسل إليه أحدهم رسالة خبيثة يستشيره فيمن يفضل أن يسمع، أم كلثوم أم عبد الحليم حافظ؟ فرد الشيخ بلهجته الهادئة الساخرة قائلاً: "هذا البرنامج اسمه "نور وهداية" وليس ما يطلبه المستمعون". وسُئل مرة عن شرعية غناء قصائد الغزل؛ فأجاب ساخراً: "وهل ستتغنى الناس بألفية ابن مالك؟".
في عصر أم كلثوم، كان للعلماء مكانة مهمة في مسيرتها الفنية، وعلى رأسهم الشيخ مصطفى عبد الرازق، خصوصاً في بدايتها، حيث وجدت بعد بروز نجمها عداوات كبيرة وصعوبات كادت تقضي عليها فنياً، حتى تأهبت لمغادرة القاهرة يائسة مع والدها الشيخ إبراهيم إلى قريتها، لولا ظهور الشيخ عبد الرازق الذي فتح لها ولأسرتها أبواب بيته الذي وجدت فيه الدفء الأسري والتشجيع والمساندة.
ويقال إن الشيخ عبد الرازق كتب بعض المقالات في الدفاع عن أم كلثوم، حيث كان يحرر باب النقد الفني بجريدة السياسة من دون أن يوقع اسمه، فكان يكتفي بالتوقيع بثلاث نقاط فقط.
وربما كان للشيخ عبد الرزاق أثره الباقي في أم كلثوم ثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً. فكانت حريصة على تقبل الانتقادات ذات الطابع الديني. وحين تعرضَت لنقد شديد بسبب عبارة في أغنيتها "الحب كله" تقول فيها: "يا أرقّ من نسمة وأجمل من مَلَكْ"؛ صارت بعد ذلك تتحاشى استخدام أي لفظ يشير إلى الملائكة في أغانيها، كما امتثلت لاعتراض بعض علماء الأزهر الشريف على مسألة تسجيل القرآن الكريم بصوتها.
أما عن مقرئي القرآن، فكان الشيخ محمد صدّيق المنشاوي عاشقاً لصوتها، وكان يقول: "إن في صوتها قوة رقيقة ونغماً موسيقياً". في حين وصفها الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بأنها "كوكب الشرق والغرب". أما مصطفى إسماعيل، الذي كان شيخ مشايخ القرّاء في مصر، فقد حضر إحدى حفلاتها في الإسكندرية، وحين دخل القاعة راح الجمهور يهتف له، حتى دخلت أم كلثوم المسرح، وبدأت الموسيقى.
* كاتب من مصر