يبدو أن الحرب انتهت بعدما تمكّنت من أقصى درجات العنف. باختصار، لقد بلغت ذروتها، وها هم الجنود يوضبون حاجياتهم ويجمعون معدّاتهم، متعبين منهكين خائري القوى، وقد كرّسوا جام طاقتهم في القتال. لذلك انصرفوا يجمعون ما نجا من حاجياتهم ومعداتهم بغير كثير من الحذر، يرمونها في أكياس حقائبهم وفي المركبات، التي كان مِن بينها ما خُصّص لحمل الجنود، ولحمل المعدات الحربية وصناديق الرصاص والقنابل اليدوية، ولحمل الدبابات، ولحمل معلّبات الطعام المحفوظ بما فيها تلك منتهية الصلاحية.
وبدت جميع هذه الوحيدة السالمة على امتداد البصر، في حين برزت بشكل خاص المباني التي تعرّضت للقصف فامتلأت بالفجوات غير المتّسقة، بينما سقطت أحجارها في أنحاء الشوارع وعلى الأرصفة، وتشقّق طلاء حيطانها الداخلية والخارجية التي أحاطت بما تبقى من أثاث لم يستطع الفارون من القصف حمله معهم.
لكن بشكل أقل، برزت في المكان جثث القتلى من مختلف الأعمار التي ترامت في أنحاء مختلفة منه، أو بالأحرى يجدر تجنّب إبرازها، وبدل ذلك التركيز على عددها، وإن كان هنالك متسع من الوقت، يمكن ذكر أسمائها وأعمارها ثم ظروف قتلها وماذا كانت تفعل حتى لحظة قتلها وما لن تتمكّن من فعله.
مع أن هذا أمر شاق فعلاً وقد يكون من شبه المستحيل تجميع مثل كل تلك المعلومات، التي من الأرجح سيتم نسيانها في أقرب فرصة ممكنة، بغض النظر عن القدر الكبير من الشفقة وحتى الحزن الذي ستثيره. غير أنه لن يتم عمل أي من هذا هنا البتة، تفادياً لاحتمال اعتبار النص الآتي نصاً سياسياً دعائياً، ما له أن يثير امتعاض عناصر من القراء خاصة المنتمين إلى الطبقة الوسطى من المثقفين.
على أي حال، هذه الجثث، إن عنت شيئًا لغير أصحابها، ستعني فقط للمقربين منها جدًا، وربما قاتليها أيضًا، لكن ليس حالياً، إنما لاحقاً، بعد سنين في الغالب، فهم الآن متعبون منهكون خائرو القوى، ويحاولون استثمار ما تبقّى لديهم من طاقة في تجميع كافة حاجياتهم ومعداتهم، لترك ساحة القتال هذه والعودة إلى بيوتهم دون تأخير.
إذن كان عليهم تجميع ما كان سالمًا أو ما لم يتم استخدامه، ووضعه إما في حقائبهم أو في المركبات المناسبة، وما لم ينجُ أو ما تم استخدامه، فكان عليهم تجميعه في أكياس نفايات ضخمة، وهي مهمة لم يمنحوها الاهتمام الذي أولوه لجمع الحاجيات والمعدّات السالمة، مع أنهم حين سيغادرون المكان وأخيراً سيتركون بعضاً منها خلفهم وليس النفايات فحسب.
وفي هذه الأثناء، ستعلو كذلك أصوات بعيدة مدّعية أنه لا بد من انتصار الحب والسلام في النهاية، كما وستتأهّب طواقم الإسعاف الطبية لدخول المكان، والصحافة العالمية، ثم قوافل المساعدات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان، وخلفهم ستتسلّل سرّاً مجموعة من الأطفال الأشقياء والفضوليين. وحالما ستدخله، ستنصرف هذه المجموعات على اختلافها للبحث في المكان عمّا ينصبّ أو يقع في نطاق اهتمامها.
وهنا لا حاجة البتة للتوقف كثيراً عند تفاصيل غالبية هذه الاهتمامات كونها معهودة، وسيتحوّل النص مباشرة إلى مجموعة الأطفال الأشقياء والفضوليين تلك، التي ضمّت بين صفوفها هذه المرة كلاً مِن محمد ومنيرة ومنعم ومازن وميسون ومخلص ومايا، وقد تكون هذه صدفة محضة بأن أسماء جميع أعضائها تبدأ بحرف الميم. عدا عن ذلك، وبالرغم من أنهم وُلِدوا لعائلات ذات خلفيات اجتماعية واقتصادية متباينة، كان هنالك قاسم مشترك آخر أساسي بينهم وهو الفقر.
كانت منيرة أكبرهم، لكن محمد كان أقواهم، فقاد الاثنان المجموعة في أنحاء ساحة الحرب شبه المهجورة، وفي المؤخرة على الدوام مايا التي كانت أصغرهم سنًا وحجمًا.
ومع أن لكل سنٍ وحجم إيجابياته وسلبياته، عاشت مايا في هذه اللحظات الجوانب السلبية لا غير. فبينما كان بقية أعضاء المجموعة يجدون من بين مخلّفات الجنود أشياء رائعة وفريدة وذات قيمة، كانت تجد هي ما هو موجود بكثرة وما لم يكترث به أحد، مثل علب السردين الفارغة وأغلفة الرصاص. وقد انصرفت تجمعها وترمي بعضها حالما تعثر على أخرى أفضل منها، مبقية على تلك التي أشدّ التماعًا وأقل انبعاجًا، إلى أن عثرت في نهاية المطاف على علبة سردين لم يكن غطاؤها مفتوحًا إلا قليلاً مع أنها كانت فارغة تمامًا. وعلى الفور باشرت مايا تضع فيها أغلفة الرصاص الصغيرة التي جمعتها وأبقت عليها. أدخلتها برويّة واحدة تلو الأخرى وبترتيب، حتى امتلأت العلبة على آخرها بصفوف عرضية من أغلفة الرصاص، على عكس الاتجاه الطولي الذي يصطف فيه عادة السردين في العلب. ثم فجأة علت صيحات الدهشة والإعجاب من جهة المجموعة في المقدمة، قبل أن يبدأ أعضاؤها بالركض فارين، ومايا خلفهم، مع أنها لم تعرف السبب لذلك، لكنها، مثلهم، كانت مدفوعة تحت ظروفهم الحياتية الحالية بغريزة البقاء معًا دائمًا وقدر الإمكان.
ركضوا حتى وصلوا منطقة خالية من المباني ومن البشر، اعتادوا اللعب فوقها متى أمكنهم من أوقات السلم. افترشت منيرة الأرض وتبعها محمد، فيما تجمهر البقية حولهما واقفين. بعدما ساد السكون، أخرجت منيرة من تحت قميصها علبة حديدية أسطوانية الشكل. كان مطبوع عليها كتابة لم يقدر أي منهم على فك رموزها، لكنهم عرفوا تمامًا ما كانته، بفعل ما ورد أسفلها. صورة خيار بلون زيتي.
أخذت منيرة تحاول فتح العلبة المغلقة، فيما لم يكف محمد عن توجيه تعليماته حول كيفية القيام بذلك، ثم سرعان ما تدخّل في العملية ساحبًا العلبة منها، لكن هذه لم يعنِ البتة بأن منيرة فقدت سلطانها عليها. وقد أخذ اللعاب خلالها يتجمّع في الأفواه الموصودة بإحكام، قبل بلعه كلما ازداد احتقاؤه فيها معيقًا عملية التنفس. هم بالتأكيد لم يعتبروا أنفسهم أطفالًا شديدي الفقر، غير أن الخيار المكبوس كان نادر الوجود في سلتهم الغذائية، بل وفي مشهد حياتهم اليومي. كانوا يلمحونه أحيانًا قليلة في ثلاجة عروسين حديثي الزواج، أو خلال عزومة غداء أو عشاء كبيرة. أما هكذا، فيما هم يلعبون، فكان ذلك مستحيلاً.
السؤال الآن هو كم خيارة ستكون داخل العلبة، وعدد التي ستكون من نصيب كل واحد من بينهم. لا بد أنه سيكون هنالك سبع خيارات على الأقل. ربما عشر. كان من المقبول على الجميع أيضًا أن يحصل كل من محمد ومنيرة اللذين وجدا العلبة على أكبرها وأكثرها، بعد القسمة على الجميع بالعدل، وأصغرها ستكون من نصيب مايا، فهي أصغرهم سنًا وحجمًا، ولا يحتاج جسمها إلى هذا الكم من الخيار المكبوس. بقيت الأفكار والتساؤلات الداخلية والتصورات تدور في رؤوسهم الصغيرة حتى انفتحت العلبة وأخيرًا.
وكان صوت انفتاحها طنانا في بدايته، تحوّل فيما بعد إلى صوت شابه صوت تمزيق الحديد. ثم وصلت رائحة سائل التخليل إلى أنوفهم، والتي اشتدت حدتها خلال عملية نقل العلبة من يدي محمد إلى يدي منيرة وهي عملية كانت أقرب إلى عملية الفك وإعادة الفك منها إلى التسليم، إلى أن استقرت بين يدي محمد من جديد في حين أخذت منيرة تخرج محتواها، خيارة تلو الأخرى، موزعة إياها على ميسون، ثم مازن، ثم مخلص، ثم منعم وأخيرًا مايا. وفي الحقيقة، بعد الفحص والتدقيق، لم يبدُ أن أحجامها اختلفت كثيرًا.
وبينما احتفظ محمد ومنيرة بالعلبة وما تبقى فيها، بدأ الجميع بالتهام ما وقع من نصيبهم. وإذ انتهى الغالبية من أكل خياراتهم بالرغم من قيامهم بذلك بأبطأ قدر ممكن، لم ينته محمد ومنيرة بعد من أكل ما كان من نصيبهم. لذلك انطلقت رجاءات هامسة، طالبة قضمة إضافية منهما، صغيرة فقط، ومنيرة ومحمد ينهران الراجين، ومع ذلك يمنحانهم قضمة جدًا صغيرة، إلى أن أجهزت المجموعة على الخيار في العلبة بالكامل، وبقي السائل، فبدأوا بشربه، كل حسب دوره وليس أكثر من الثاني، وإن فعل، كما كان الحال مع منعم، ستسحب منه منيرة العلبة بسرعة. بالعدل قُلْنا!
بعدها توزّعوا، دون مايا، في مجموعتين كل منها تحوي ثلاثة، وباشروا يقذفون العلبة من قدم إلى أخرى. وكلّما تم قذفها بعيدًا، هرعت مايا الواقفة جانبًا، والتي كانت أصغر سنًا من أن تعرف كيف تلعب كرة القدم جيدًا، إلى إحضارها.
كان ذلك فعلاً يومًا جميلًا لن ينسوه طيلة حياتهم بسهولة. كانوا سعداء.
* كاتبة من فلسطين