تعيد روسيا للاستعمار القديم أحد أكثر وجوهه قبحاً، وهو الوجه العدواني القائم على مبدأ التدخل العسكري المباشر، فلا مبشرين، ولا مستكشفين، ولا ثقافة للغزو، بل إنهم قد أغلقوا داراً كبيرة للنشر اسمها "دار التقدم" كانت تزوّد قراء العالم بالكثير من الكتب المترجمة عن الروسية.
ولا يصلنا اليوم إلا أقل القليل من الأدب الروسي المعاصر، وقياساً إلى ما يترجم من اللغات الأخرى اليوم فإن حضور الآداب الروسية في بلادنا يبدو فقيراً للغاية. ونحن اليوم لا نعرف شيئاً ذا بال عن الرواية الروسية المعاصرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ولا نعرف شيئاً عن الشعر أو المسرح الروسيين، وقد مرّ أكثر من خمس وعشرين سنة على ذلك الحدث الذي أزال صفة السوفييتي وأعاد الهوية الروسية، وما زلنا نجهل تماماً ما الذي حدث في حقل الفلسفة، وكيف يتم التخلص من إرث الماركسية، وهي الفلسفة المعممة في الزمن السابق، وما الذي يحل محلها هناك. ولا نعرف شيئاً أيضاً عن الكتابة في الصحف الروسية، وما تعليقات الكتاب الروس عن التدخل العسكري الذي يقوم به نظام بلادهم في أي مكان من العالم.
وبالمقابل بدأ يسود خطاب كراهية ضد الروس في أوساط عربية كثيرة، ولدى أصحاب هذا الخطاب الذي يركز على الروح الشرسة التي يتسم بها الوجود الروسي في العالم المعاصر، الكثير من المعطيات التي يمكن أن تبقي جذوة العداء مشتعلة إلى زمن طويل. وهو خطاب طارئ تقريباً، كانت "أميركا" هي التي "تحظى" به دائماً.
والملاحظ أن كراهية روسيا تتوسع كي تصبح اعتراضاً على كل ما هو روسي، إذ اعتبر كثير من المدوّنين أن هزيمة فريق كرة القدم الروسي في المونديال هزيمة لبوتين شخصياً، وهو تعميم خطير يستدعي استنتاجات لا عقلانية، والسؤال هو ماذا لو منحت جائزة نوبل في المستقبل القريب لكاتب روائي أو شاعر أو مسرحي روسي؟ هل يمثّل الشاعر أو الروائي الروسي بوتين أيضاً؟
ومزاج الكراهية لا حدود له إذا ما انساق الأفراد أو الجماعات وراءه. والأخطر من ذلك هو أن يكون لحملة الكراهية مفعول رجعي، فتنصب عواطف البغضاء ضد الثقافة الروسية في الماضي أيضاً، وعندئذٍ يمكن أن يوضع شولوخوف مدرباً لفريق كرة القدم الروسية، أو يعتبر فالنتين راسبوتين جنرالاً في سلاح الصواريخ.
والحقيقة أن الدفاع عن الحرية كقيمة عليا من القيم البشرية، والنضال من أجلها، كان من السمات البارزة في الأدب الروسي من بوشكين إلى تورغينف إلى غوغول إلى غوركي وباسترناك.
وقد دفع كاتب مثل ألكسندر بوشكين حياته ثمناً للدفاع عن مُثل الحرية، وسجن دوستويفسكي أربع سنوات حين شارك في حركة الديسمبريين التحررية. وإذا كان قادة روسيا يتفاخرون بعظمة القنابل والمتفجرات التي يملكونها، دون أن يأتوا على ذكر العظمة الروسية في الرواية والشعر والموسيقى، فإنهم بذلك يدوسون على القيم الجميلة التي نشرتها ثقافة بلادهم في العالم، قبل أن يكونوا قد استطاعوا أن يدمّروا أي بلدة في أي مكان.