قضية أم الحيران: عودة إلى المُربّع الأول

19 فبراير 2017
معاناة فلسطينيي 48 مستمرة (فرانس برس)
+ الخط -
تشكل أحداث كثيرة في كينونة فلسطينيي 48 مؤشرات مهمة إلى ماهية علاقتهم بكيان الاحتلال الإسرائيلي، وقضية قرية أم الحيران العربية البدوية في منطقة النقب- التي تمّ أخيرًا إخلاء سكانها (أكثر من ألف نسمة) وهدم بيوتهم تمهيدًا لإقامة مستوطنة يهودية في أراضيها بموجب قرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية عام 2002- هي من دون شك أحدها.
استمر البحث القضائي في قضية أم الحيران حتى عام 2015، حيث أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا قرارًا صادقت فيه نهائيًا على مخطط الحكومة.

وطبقًا لما أورده "عدالة"- المركز القانوني لحماية حقوق فلسطينيي 48- الذي مثّل أهل القرية وتولّى تمثيلهم أمام أجهزة قضاء كيان الاحتلال: "ثبت بالوثائق الرسميّة أن هذه الدولة هي التي أمرت عام 1956 بنقل أهالي القرية إلى الأرض التي أقاموا عليها بعد تهجيرهم من قريتهم الأصليّة خربة زوبالة عام 1948، التي ضُمت لاحقًا إلى مستوطنة يهودية. كذلك ادّعت الحكومات الإسرائيليّة أن المنطقة غير معدّة للسكن بحسب الخرائط الهيكليّة، لكن أثبتنا أن المخطط يُعدّ الأرض لإقامة بيوت ووحدات سكنيّة إنما لليهود فقط".

وعاد "عدالة" لاحقًا إلى قرار 2015، وطلب من المحكمة العليا إعادة البتّ في قرارها أمام هيئة قضائيّة موسّعة، لكن المحكمة رأت أن القضيّة "ليست في غاية الخصوصيّة كي يُبتّ فيها مُجددًا".
في ما يحف قضية أم الحيران من وقائع- أوردنا جزءًا يسيرًا منها- ما يُعيدنا إلى المُربّع الأول، وهو أن الأرض لُبّ الصراع مع دولة الاحتلال، وأن شعار "احتلال الأرض" الصهيوني الكلاسيكي ليس شعارًا للتيارات اليمينية فحسب، وإنما أيضًا لتيارات صهيونية "يسارية" تدّعي الاعتدال، ولكل مؤسسات هذه الدولة بما في ذلك القضائية.

وهذه القرية تنمذج جانبًا من معركة الأرض في منطقة النقب. وهي معركة غير مرتبطة بوجود العرب في تلك المنطقة فقط، بل تنطوي كذلك على انعكاسات خطرة تتعلق بجوهر معركة الفلسطينيين في الداخل مع دولة الاحتلال.
سبق لنا ولغيرنا أن لفت إلى أن كل ما بقي من أراض خاصة كان يملكها فلسطينيو 48 في منطقتي الجليل والمثلث لا يزيد عن 650 ألف دونم. ولذا رأت "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في الداخل" أن المشاريع الأخيرة التي جاءت لمصادرة أراضي العرب في النقب تُعتبر أكبر مخطط كولونيالي يستهدف وجودهم منذ نكبة 1948، وأن معركة النقب تُشكل بالتالي معركة فاصلة على ما تبقى من أراض عربية، بعد أن نالت المؤسسة الإسرائيلية من أراضي الجليل والمثلث والمدن الساحلية على مرّ الأعوام.
لا يجوز أيضًا قراءة قضية أم الحيران بمنأى عن السياسة الكولونيالية الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين في الداخل.

ولا بُدّ من ملاحظة أنه منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما تلاها من تحرّك سياسي وشعبي للفلسطينيين في الداخل (هبّة أكتوبر 2000)، تسير دولة الاحتلال في طريق تعميق هذه السياسة.
وإيراد عدة أمثلة من الفترة الأخيرة كفيل بإثبات هذا.
بدايةً هُناك النقاش المستمر لـ"المشكلة الديموغرافية"، والذي يولّد سَيلًا من المبادرات الرامية إلى إقصاء الفلسطينيين من الحياة العامة. وتشمل هذه المبادرات اقتراحات داعية إلى "تبادل سكاني" بين المستوطنات (في الضفة الغربية) ومنطقة المثلث (داخل الخط الأخضر).
ثانيًا هناك خطط متعددة مطروحة لمنطقة النقب- أم الحيران إحداها- تنصّ على إخلاء قسري لقرى البدو، القائمة في معظمها على أراضي آبائهم وأجدادهم.
ثالثًا هناك أنظمة حالات الطوارئ التي تحظر منذ أعوام كثيرة تجسيد أحد حقوق المواطن الأساسية جدًا، وهو جمع شمل عائلات مواطنين فلسطينيين من الداخل مع فلسطينيين (زوجات وأزواج) من الأراضي المحتلة منذ 1967، والتي لم يسعف التوجه إلى المحكمة العليا في درء أو حتى تحجيم لدغتها العنصرية.

هذه "المبادرات" تسوّقها دولة الاحتلال بغطاء تمويهي، من قبيل: (فرض) "القانون والنظام" في موضوع البدو، و"السلام" في موضوع نقل المثلث، أو "منع الإرهاب" في قضية جمع شمل العائلات. غير أنّ هذه الذرائع الواهية والكاذبة تخفي وراءها العنصرية العميقة لـ"الدولة الإثنوقراطية" (وهو مصطلح سبق أن سكّه الباحث الإسرائيلي أورن يفتحئيل مع آخرين لتوصيف "الديمقراطية الإسرائيلية") والتي تعمل من دون كلل على تعميق السيطرة اليهودية وسط إقصاء وحرمان الفلسطينيين في الداخل من موارد القوة والأراضي العامة.
ويتعيّن القول إن مؤسسات فلسطينيي 48 مُدركة لخطورة المرحلة وأبعادها المصيرية، وبرسم إدراكها هذا تتحرّك لمواجهتها سياسيًا وشعبيًا.

دلالات
المساهمون