قرنفلة لوركا

17 يناير 2017
أميد حلاج / إيران
+ الخط -

I
خطوتك قاسية، كذلك هي حافّة السماء.

العيون لصانع العود.
الشفاه للمغنّي النائم في الحديقة العامّة.

من أيّ الجهات تجيء ريحُ القصيدة؟
مِن حنجرة الطائر القمري ومن قصب النهر.

كيف تهرم كلماتك؟
عندما أتركها تسقط من سلّم عاداتي.

أمام بيتك يقف الناس حتى الصباح.
هي رغباتي المحرّمة أقذف بها خارج البيت.

امرأتي تنهض من رأس القلم، رماديّة الحسِّ،
تفتح فخذيها لصباح جديدٍ.
في يدها نار شهوتها.

قبل أن أصنع للكلمات حيواتها: آخد حمّاماً بارداً، أطفيْ المصابيح، وأقرأ كتاب السكينة.

II
لا يهم أيّ صفحةٍ ولا يهم أيّ -- كلماتٍ.
تقف في الصفّ الأول امرأتي، شجرة العوسج بيتها، خبيرة في رمي سهامها.

لها في كلّ بيداء قرنفلة وبعير.
لها على كلّ جدار موعد ونشيد.

إن أثمرت
أقطفها بلسان الشِعر.

III
من إصبع الدهشة، يجري نهرُ.
في الغيمة المتدلّية أُذن الطائرِ.
الجبل كلّ صباح، ينفخ في نباتاته نباتاته الروح.

ليس هذه نشوة الحشيش الأفغاني.
ليس هكذا يرفرف علمي.

لم أتعمّد أن أجعل الجداجد بيتا للصمت.
لم أتعمّد أنْ أجعل الزنابق حديقة للغياب!
أنا لست سوى نَفَس يشهق في البرزخ!

IV
الفرسان، النبلاء، قادة الحرب، جاءوا من كلّ البلاد.
أخذوا سلال العنب على ظهور عبيدهم ورحلوا إلى الصحراء.

سقط المطر أسودَ ثقيلاً حزيناً.
حُمرة النبيذ من جرّة الحكاية.
حائط العمر بلا أوراق...

V
خصرها نحيل كهلال شهر أغسطس.
تنورتها طاولة المقهى
النادل الوسيم من غرناطة يدندن لحناً.

الراقص العجوز، حدأة.
السفينة تقترب.

لماذا تضع يديها الجميلتين على حقيبتها والضفيرة الطويلة على كتف عارٍ.

المقعد من جلد مراكشي. المارة، أيديهم في جيوب معاطفهم.

في مقهى بالبيازين، في عطفة الحبق والنعناع، سوف ينزل الممثل المتعب
من الملصق الإعلاني، يحتسي قهوته العربية.

VI
"يا لحزني، تركته وحيداً على سرير الشاعر السكران" قالت المرأة.

عَلَّق على زرّ جيب بذلته لحنًا غريبا. سُحبٌ زرقاء ُكعينيها، تتبعه في شوارع غرناطة.
ثمار البلّوط تفوح برائحتها. من فرجةٍ نافذتها، يطلّ هلال أغسطس، وعلى سرير عريضٍ
تفّاحتان دافئتان.
"طنجة قريبة جداً" قالت ستارة النافذة.

VII
أدخلتْ ليلي في حديقتها؟
نهضتْ وأفرغتْ زقّ خمرها في ثالوت اسمي، لمْ يكن لي خيار، غير أن أطلق لجامها في يدِ خادمها الأمين.

ألهذا ترنحتْ السماء ليلة البارحة وانشقّ القمر؟

"لقد أعطيتُ للحياة:
قوقعتين بحريتين، نصف بطّيخة حمراء،
كرّاسة وقلماً لم يعد قادراً على الكتابة"

كان باب الفرح مفتوحاً والأرائك مبتهجة بالرجال القادمين من حروب صغيرة.
سوف أوصلُ بين الخطّين ليستريح عامل الستارة.

الشجرتان على جانبيّ البيت، في الحديقة العامة في غرناطة، كانتا شاهدتين على طيران فيديريكو.
كانتا قريبتين من الباب. آن جاء الحلّاج ذات ليلة مطيرة. كانتا تتنصتان على نبض فيدريكو
مغمض العينين. كانتا بذرتين سقطتا من سرج عبد الرحمن.

VIII
أعواد القشّ، الزيزان، ما تساقط من اشجار الكستناء، رجفة جفن المسافر المغربيّ،
والعشب البليل، حيّوا فيديريكو.
هل نام الحرسُ في قلعة طليطلة؟
لقد أخبرني رجلٌ يجرّ وراءه عربة مليئة بالبطيخ، أنهم غادروا منذ زمن بعيد.
إلى أين تؤدي هذه السلالم يا فيديريكو؟
إلى حجرة عبد الرحمن، إلى آنية الياسمين وناي الشهقات الحزينة، إلى شمسٍ تتلصصّ من كوّة الجدار العالي.

ومَنْ وراء الستارة الحمراء، هناك على التلّة المقابلة؟
وصيفة نوبيّة، جلبها سعيد بن معمر. قيل دفع وزنها ذهباً، ووافته المنيّة ليلة دخلته.
في الليل يجول طيفها، عبق رائحتها، وخيط دخان رهيف في ردهة الجانب الشرقي.

أقفلت المدينة.
رحل الهلال الوليد إلى صحراء في كُمِّ الخليفة.

باغتوهم، أقفلوا عليهم الشوارع والطرقات. خلعوا أرديتهم، وطواقيهم داست عليها الكلاب.
لم يكتف رئيسهم، أمر بخلع: ألسنتهم، أذرعهم، أقدامهم، وأن يوضَعَ رأسُ كلّ واحدٍ منهم
في قدرٍ نحاسٍ ويُصبّ فوقه قطران ساخن. عندما حملوهم إلى قفرٍ خارج المدينة، بعض ما تساقط من القدور، نبتت له أجنحة وصار طيراً. البعض الآخر نبتت له جذور وصار شجراً.
أمّا ما رُدم تحت التراب فقد صار له صوت نواحٍ يُسمع في آخر الليل أسفل البيّازين.

في طفولتي، سمعتُ عن المطر الضاحك في غرناطة؟
سمعتُ به أنا أيضاً!

في الرابع من شهر العفّة، هزّت الريحُ أوراق التفّاح، شتّتتْ لاهثةً جراءَ القائد ومزناً يهطل.

البيضة عالمٌ وحده!
أدري، لكن لو قلبتها لرأيتَها: نصفاً بلحنٍ نباتيّ، أوراق دفلى وجذور نخلٍ، وعنّاباً طازجاً.
ونصفاً بلحنٍ حيوانيّ: غرابيب، وأخفاف إبلٍ تائهة.
الممثل المبتدئ غافل لوركا، وضع سمكةً في جيبِ سترته.

هل حقّا يا فيديريكو، شاهدتَ السمكة وهي تنقلب إلى طائرٍ يحلّق في المدينة؟
أجل، كنتُ هناك، على الدرج وكانت عنكبوت تتدلّى من مصباح الغرفة أيضاً هناك.

IX
قمري هذه الليلة يبحث عن النوبيّة الوصيفة!

هات القرفة يا فيديريكو.
ليس عندي غير قرنفلة وحبّة زبيب.
غطاء الطاولة الأزرق، يسترق السمعَ على قرنفلتي، يراود حبّة زبيبي على نفسها.

هل راودْتَ غرناطة عن نفسها؟
هي فعلت ذلك ولعنتْ فقيه الخليفة.

مَنْ أقفلت الستارة عليكما، عاريين على السرير؟
الوصيفة النوبية.

لم أكن أعلم أن قلبها سمكة، وسرّتها مفازة.
لم أكن أعلم أن رأسها وردةٌ.
أن ذراعيها طيّاراتان ورقيتان.

قالت لي، تحت لحافٍ مراكشي:
أظنُّ أنّ هلالكَ يبكي!

وفراشات الليلك أيضاً، قلتُ.

X
امرأةٌ، تهبُ قرطيها غرناطةَ، تبيع جسدها إلى أول مغربيّ في البيازين.
امرأةٌ، أكبر من نافورة البيت، أعلى من عراجين الحمراء.
تعالي، أضع الحنّاء المغربية على أصابعك العشرة.
تعالي، أسقي سمكاتكَ عسل النوّار.
تعالي، أهبكِ حصيرته الصوفي وقلنسوته.
تعالي، ستمطر ضحكاتك.

XI
المغنّي علّقَ عود الخيال، خلف باب القصر، ثم مضى كئيباً، يتبعه كلبه الأمين.
الظلّ يرابطُ تحت القوس الموريسكي، يغوي عاصرات الضوء.
يسابق السلاحف على انشوطة الفتى.

"البلدة حلزون كبيرٌ" قال العجوز يهزّ عصاه.
غرناطة، تجيء بأقمارها، بنجومها، بأبراجها، بمنشّة العروس.
تصعد السلالم على مهل.

XII
هل حقاً ذهبتَ إلى نيويورك؟
ذهبتُ ولم أذهب! لكني ما كتبتُ الذي رأيت، كتبتُ ما لم أرَ،
وهو ليس بالقليل على كلّ حال!
رسمتُ قلب الحبّ فوق قوس غرفة المعيشة، ثم دهنته بحمرة الصبّار،
قلتَ للصباح:
كنْ فراش نافورتي وأسماكها،
كنْ حارس زهرات ياسمين تنام أغلب الوقت.

على أيّ شيءٍ تبحث امرأتك؟
عن كستناءات ناضجة وفطيرة تفّاح.

XIII
في وشاح أخفت دموعها، لكنّ شامة الخد فضحت جرأة المغنّي.

في وشاح، يجلس إزرا باوند، يتأمل قصائد دو فو.

في وشاح، رأيتُ سيلفيا بلاث، امرء القيس، يزيد بن الطثرية، سالم العوكلي
وحبّابة المكّية تعلّم الحبّ في سقيفة معتمة.

لإمرأتي كرمة وثعلب وخمار.
قالت لي: افطارك زبادي معسّل وفطيرة من شعير.

لِمَ علّقتِ على زنّاركِ نجمة وصليب؟
لم يكن ذلك الباب بهذا الصغر.
لم تكن الستارة بهذه الحمرة.

يا امراة
لا تدعي ابرتك
تسقط
على زنبقة،
كوني خيطها الرقيق.

لأيّ صلاة ارتديتِ رداءك الأحمر؟!
لأي حربٍ أطلقتِ ضفائر شعرك؟!

المصلوب أغلق عينيه أخيراً.

XIV
الأندلس بكتْ حين التفتت أشجار الزيتون جنوباً.
للمرّة الثانية، أحتسي شاي بالمريمية.
للمرّة الثانية، تترك النوبية جوربها على سريري.
ألا تتعبُ يا هلالُ؟!

XV
"أغنيتي تمشي على أربع" قال المغني في حانة البيازين.
اشبك أصابع يديّ، وطويلاً أُحدّقُ في أجّاصتها الحمراء.

أنتظر ثمالة شهيق أنفاسها، أنتظرُ لعقةً عسلِ من عنّابها.
يكفيني أن أنتظر.

لها
أن تؤرجحَ من قبّعتها خميساء فضّة
أنْ ترفع قليلاً تنّورتها القصيرة
أنْ تفسح لتفّاحتين طريقاً واسعاً
أنْ تعضّ مرودي خفيفاً بأسنانها
أنْ تسقني كأس حنطتها تحت لحاف الليل.


هل جعلتَ موسيقى الأكورديون تسترخي بين يديها؟
وهبتها راحة الشاي وحرقة السمّاق.

عازف القيثارة نسي أوتاره، لكنّه استمرّ يعزف بلا كلل!

بقليلٍ من حمرة على الخدين، يستكين الليل، يغطس العصفور في بحيرة اللذة.

أنا تأسرني النظرات فارغة،كي أملأها بحكاياتي.

أنا تأسرني أصوات الليل، كي أجعلها وسادتي ووادي شهواتي.

أنا تأسرني رجفة العنقود، كي أعلم حينها وقت القطاف.

XVI
لِمَ أخافُ من مغادرة الحجرة، وأخاف من البقاء.
أجلس على كورنيش الشطّ،
أمضغ كلماتي أشرب الفودكا بلا ثلج؟

لِمَ أخفيتَ عن النهاوند الخليع عصفورك يا عاشور؟
(المرأة أغلقت شرفتها، وكبير الحجّاب خانك في بيت الهوى)

أبي أورثني طائر الوديان، قال لي:
لا تبح باسمه في السوق،
لا تضعه في قفص،
لا تطعمه من تينٍ لم يمسسه ظلٌّ،
واجعل حِجْرها له سريرا.

XVII
تحت اللحاف المراكشي، قالت لي: هل تعريتَ من وسواسك، كي أسكب خميرة البحر في فمك؟
كان لساني يتبع خيط عسل إلى آخر الشطِّ. على حلمتي نهديها، زنبقتان وعلى شفاهي
شغف الكون وصهيل الفحل.

مات الحادي وعطشت العيس!
بين الصوت الحزين ويد أمّي
أعيد الوقت إلى خزانته
أعيد الرسول إلى حنجرة الكلام.

لقد حيّتكَ فتاة الفندق، وفتى المصعد، مصباح البهو، وبهاء الفخد في حانة الركن.

ناثرة الشيكولاتة فوق سريرها، منشغلة بوشمٍ أسفل البطن.

بائع الأيس كريم، يقرأ الجريدة كلّ صباح.

عندما دخلتَ صحرائكَ،
صار الهلال وعين النوبية
كرتين زجاجيتين تحت قدميك.
الليل الموحشُ، على طول الطريق، يهطل بالنحيب.


"عين الكاردينال، وعين النوبية، يقطران دماً" أخبرَ حارس المكتبة.

أقطفتَ يوماً هلال أغسطس؟
ليلة البارحة، كانت الأولى.

* شاعر من ليبيا


دلالات
المساهمون