قبل الزفرة الأخيرة

29 يناير 2018
إسماعيل بحري/ تونس
+ الخط -

عمر البشرية العاقلة 200 ألف سنة. طيب، انظروا إلى ما وصلنا إليه، وقرّروا: هل نحن جديرون ـ كسلالة ناطقة ـ بالثقة؟

حسناً إذاً.. مع ذلك لا يمكننا الرجوع للوراء والمشي على أربع، وسيكون حسناً ألا نتعلّق كثيراً بالأوهام، مِن الآن فصاعداً. من ناحيتي، أستقصي بانوراما ودراما التاريخ، وأضرب نفسي بالحائط. فما من خيبة وبوار، أكبر مما كنا فيه وصرنا إليه.

قد تكون نظرة "رجعية" للتاريخ تنفي عنه حتمية التقدم، وتُقلق ماركس في قبره (وهي قريبة من هذا بالفعل)، ولكنها ولكنني، بعد 200 ألف سنة من "التطوّر"، معذور نوعاً ما في ما أراه وأذهب إليه.

فأنا أعيش واحدة من ذُروات نظام اقتصادي مُهيمن، لم يكن له مثيل سابق في مقدار لصوصيته وجشعه وعنفه اللانهائي. بضعة أفراد يهيمنون على مقدّرات وثروات نصف الكوكب. لا العبودية كانت هكذا ولا الإقطاع، ولا القنانة، ولا بالطبع مرحلة المشاع.

للرأسمالية التي ولدت في بريطانيا (أم الشرور المعاصرة) من الضحايا، ما يفوق عدد ضحايا جميع ما سبقها من أنظمة اقتصادية طوال التاريخ؛ المدوّن وغير المدوّن. نتكلم عن هذا بمنطق اليوم واللحظة، وبمنطق الاسترجاعات، دون القدرة على التنبؤ بعددهم في المستقبل المنظور والمتوسط والبعيد. 

إنها (الرأسمالية) أخطر على البشر من السلاح النووي (ذا صنيعتها، في الأساس). وليس في ذلك مبالغة، فما قتله هذا السلاح إلى اليوم لا يقاس بما أسقطت الرأسمالية من ضحايا.
النووي قتل نصف مليون؟ مليوناً؟ أكثر؟ الرأسمالية ضحاياها بالمليارات.

كما، لا الفاشية، ولا النازية (وهما، لا ننس، ابنتاها في الأصل، أيضاً)، ولا من لفّ لفهما، يُقارَنون بشرور الرأسمالية (إلا إذا نسبنا الفرعَ للجذع).

الرأسمالية دمّرت قارات بأكملها ومنعت عنها "المستقبل". قتلت سريعاً وتقتل بطيئاً الآن مليارات من ساكني الكوكب. أفريقيا كلها كقارة ضحيةٌ للرأسمالية. أميركا الوسطى والجنوبية، أستراليا، أغلب قارة آسيا. هذه القارات جميعها طُحنت في مطحنة الرأسمالية، ويقولون لك يكفيها أنها أنتجت النظام الديمقراطي ودولة الرفاه. النظام الديمقراطي؟ الرفاه؟ لمن؟ وعلى حساب من؟ من ناحيتي، وخلفي ما خلفي، أقول: طظ.

وطظ أخرى ـ ولست بتلك الخفّة ـ للذين يتوهمون أن البشرية ماضية في طريق الخلاص نحو غدها الأفضل. وطظ ثالثة للذي يعوّل على نظام اللصوص هذا كي يخفّف عنه ثقلَ العصور.
فالرأسمالية كانت وستظل هي المشكلة، وأبداً لن تكون الحل. وإذا كان "صندوق باندورا"، أسطورة، فالرأسمالية جسّدته، وحوّلت تلك "الأسطورة" الموغلة في القدم إلى واقع مشهود ومُحايث.

على أنه يسعدني ـ وإن ليس بذاك المقدار ـ أن يكون على رأس أولمبِها اليومَ رجلٌ أمّي، هو بكل المقاييس "أصيل" من أُصلائها، وليس من خارج الجدار: أقصد تاجر العقار وصاحب قاموس السوق والصفقات، ترامب. فهو وجهها الفصيح رغم لسانه العيي.

وهو أفضل من يمثّل حقيقتها وخباياها ـ ما فوق طاولتها، وما تحت الطاولة. لعل الذين يمشون على اثنتين الآن، مزهّوين بذلك التطور البيولوجي، الذي نجّاهم من مصير الدوابّ، (والذي لم يصاحبه ويناظره تطور سيكولوجي مقابل)، يستيقظون من الغفلة الدهرية، قبل فوات الأوان. عسى ولعل، نلفظها، قبل الزفرة الأخيرة!

المساهمون