قالت لي السمراء

29 نوفمبر 2016
لم يندمج بمحيطه (أندرو بارتون/Getty)
+ الخط -
حي هادئ... هي الصفة الأولى التي يمكن أن تخطر في البال. فالمكان بالمقارنة مع ما حوله خصوصاً، أشبه بقطعة من السماء سقطت صدفة وسط ضجيج السكان والأسواق والسيارات والآليات الضخمة والصغيرة والشتائم المتعالية والمعارك الراكدة، التي تشتعل من دون خطط مسبقة. ومع سقوطه ينتظر في أيّ لحظة العودة من حيث أتى. فلا هو اندمج في ما حوله، ولا ما حوله له القابلية حتى على الاندماج معه.

هو حيّ مختلف بشجره ونباته الممتدّ من أول نقطة فيه إلى آخر نقطة. شجر عتيق يتنوع بين السرو والصنوبر والسنديان، وتلك الشجرة التي منها كثير في كلّ مكان، ولا يعرف أحد لها اسماً. وشجيرات الفتنة والياسمين وعبّاد الشمس. وشتول الفلّ والحبق والورد المتنوعة. كلّها تعطي المكان الذي لا يتعدى طوله مائتي متر وعرضه 30 متراً مع مبانيه، عطراً مميزاً عن كلّ محيطه ككلّ شيء آخر فيه.

تلك المباني تميّزه كذلك، فهي من عصر سابق. عصر فيه الكثير من الرومانسية حين تنظر إليه عن بعد ربع قرن وأكثر. هي بيوت من طابقين أو ثلاثة لا أكثر، بشرفاتها المزينة بدرابزينات حديدية تتغير أمزجتها بتغير الطقس من بارد إلى حار فمعتدل. شرفات تزينها عدا عن كلّ زهورها وألوانها فتيات يسرقن لحظة حبّ ومواعدة مع رفيق لا يظهر غالباً. يرمين إليه إشارة من عين ومبسم وحركة عنق وكتف، تخرج من تحت كتاب في أيديهن يدرسن فيه أو يتعمدن إظهار عنوانه بقدر ما أمكنتهن مساحة ورقه: "قالت لي السمراء".

بقعة طولية تنسلخ عن المدينة بأكملها، وتجتمع معها في الوقت عينه. ليست جنة فهي لها واقعها اليومي وحراكها الاجتماعي. أهلها ينامون هناك لكنّهم يمضون إلى أعمالهم كلّ يوم. بينهم التلميذ والطالب والموظف في الدولة وفي القطاع الخاص. وبينهم رجل الأعمال وصاحب الدكان والحرفة والمهنة الصغيرة. وبينهم المدرّسة وربّة المنزل، تلك التي تضرب اللحم النيء على البلاطة حتى يتحول مع إضافاتها العديدة ونكهتها الطيبة إلى كبّة لا مثيل لطعمها، أو تلك التي تفرم اللحم على الماكينة ولا تتعب نفسها بالضرب على البلاطة، ولا تطرب الجيران بوقعها... أو تزعجهم.

الحيّ كما تلك السمراء نفسها. تقول أشياء وأشياء. تقولها كما لا يقولها أحد. من ديوان شعر ناطق في وجهها نظمه نزار قباني في زمن بعيد ما زال بعضنا يعيشه، أو من اقتباسات تحمل رقة غادة السمان، بل هي نفسها السمراء لها فرادتها المماثلة لذاك الحي وسط كلّ الضجيج الآخر. فإن نطقت كانت موسيقى وعطراً وبهجة وألقاً وشهباً تسقط من السماء. وكأن من أمامها تنطق القصيدة بلسانه: "أنا على الباب، أرجو انزياح ستر".

المساهمون