في مديح برلين
لا يمكن التعامل مع برلين بوصفها مدينةً واحدة، هي عدة مدن تحتضنها غابة من الأخضر بكل ما لدلالات اللون من معنى. هذا التنوع يجعلك في دهشةٍ دائمةٍ، ويستفز حواسّك للانتباه لكل تفصيل حولك، وستحاول معرفة سر الألفة التي تشعر بها من الأصدقاء الذين يعرفون المدينة جيداً، سيخبرك العارفون أن سبب ما تشعر به من الألفة الألمان من سكان برلين، أبناء (وأحفاد) أولئك الذين عاشوا الحرب العالمية الثانية، وفقدوا أعداداً هائلة من الضحايا من عوائلهم وأحبائهم، سببه أبناء وأحفاد أولئك الذين كانوا شاهدين على الدمار الكبير الذي لحق ببلادهم، وشاهدين كيف تشتغل الحروب على تدمير البنى النفسية للبشر مع تدميرها بنى المدن، و أبناء (وأحفاد) أولئك البشر ممن عاصروا الجدار الذي قسّم مدينتهم إلى قسمين، الجدار الأيديولوجي الذي ارتفع زمناً طويلاً حتى هدمه الألمان، إذ لا تنفع الجدران المرفوعة بين البشر سوى لرفع منسوب الكراهية، في حين علمت الحرب والدمار والمجازر والمحارق الألمان أنه ما من مجتمعاتٍ ودولٍ وأوطان تبنى بدون محبة، وبدون عدالة ومساواة، وأن الكراهية سترفع مزيداً من الجدران.
سيُخبرك العارفون أن الهولوكوست ضد يهود ألمانيا وأوروبا زمن النازية ربّى لدى الألمان إحساساً عالياً بالذنب ما زال مستمراً، وهو ما جعل غالبيتهم يتقبلون الاختلاف والمختلف بحبٍّ كبير، وجعلهم يقفون دائماً ضد وصول اليمين المتطرف العنصري إلى الحكم، وهو ما جعلهم أيضاً يفتحون قلوبهم للاجئين القادمين من بلدان الحروب والموت، ويساعدونهم على تخطي خوف ما عانوه في بلادهم، ووجل الوصول إلى بلادٍ غريبة. ثمّة شيء آخر في برلين، ربما ساهم في إظهار الجانب الأليف منها للغريب، أن من بنى برلين، إثر دمارها في الحرب العالمية الثانية، هم النساء، فالرجال فُقد غالبيتهم في الحرب، وبقيت النساء في مواجهة كل ذلك الدمار والموت، وفي لحظة تحدٍّ تاريخية قرّرن إعادة بناء المدينة، وإعادة الحياة إليها. وأضفى هذا التحدي التاريخي على المدينة طابعاً أنثوياً، فيه من اللطف والمودة والأمومة ما يمكنه مباشرةً إبعاد طيف الوحشة، الذي عادةً ما يشعر به الغريب، زاد في ذلك تلك المساحة المذهلة من الخضار المحيط والمتغلغل بالمدينة، وكأن إرادة الطبيعة تحالفت مع إرادة البشر، لجعلها تنسى تماماً ما مرّ عليها من موتٍ ودمار وحزن، لتتحول إلى مدينة مفتوحة على الحياة والتنوّع والاسترخاء، وربما صفة الاسترخاء أكثر ما يليق ببرلين، إذ تشعر وكأن إيقاع الحياة فيها أكثر سلاسةً وسهولةً من غيرها من العواصم الكبرى، وهذا ما انعكس على السوريين اللاجئين فيها، فعلى الرغم من صعوبة تعلم اللغة الألمانية، والتعقيدات الروتينية الأخرى، لا تشعر أنهم تحت ضغط نفسي ثقيل، شأن السوريين في باقي دول اللجوء والنزوح، وحتى في باقي المدن الألمانية، بل ستلمس لدى أصدقائك، هناك، إحساساً بالأمان والطمأنينة، يصيبك بالعدوى، وستشعر لحظتها بالحزن، لأن هذا الأمان لا يشعر به إلا القلة من أهل بلدك.