في مديح الرائحة

10 سبتمبر 2016

(فاتح المدرس)

+ الخط -

لم يُعنيا، الفلسفة العالمية وعلم النفس البشري، عبر العصور، بالرائحة بوصفها إحدى أكثر منتجات الحواس إثارةً للخيال البشري ومحركةً له. نظرت الفلسفة إلى حاسة الشم نظرة استعلائية، على عكس باقي الحواس، كونها أكثر ارتباطاً بالحيوانات، ثمّة في الفلسفة ما يعلي من شأن البشر على باقي مخلوقات الأرض، مع أن جزءاً كبيراً من الفلسفة، لا سيما الحديثة منها، ارتكز على النظرية الداروينية في أصل الإنسان، سواء مع أو ضد. هذا الاستعلاء في التعامل مع حاسة الشم وتالياً الرائحة، جعل من الفلسفة قاصرةً عن فهم علاقة الروائح بالبشر، ربما هذا ما جعل من رواية "العطر قصة قاتل"، لباتريك زوسكيند، تأخذ هذا الحيّز من الاهتمام، إذ شكلت الفكرة التي بنيت عليها الرواية ما يشبه الصدمة لدى القراء. أسميت الرواية (العطر قصة شغوف)! إذ أفهم تماماً معنى الشغف بالروائح. حتماً، ذهبت الرواية إلى منحىً متطرّف بعلاقة البطل مع روائح العذارى.

ولكن، دعوني أحدّثكم عن علاقتي مع الروائح. لكن، لنتفق أولاً أن ما من شيء في هذا الكون بلا رائحة. لندع خيالنا يحيك روائح حتى للأشياء التي نظن أن لا روائح لها. عندما أزور أي مدينةٍ جديدةٍ وأشم رائحتها، أدرك أنني سأعود إليها ثانية. حصل هذا مع عدة مدن. هناك مدنٌ لم أشم لها أية رائحة، أو شممت رائحةً لم أحبها، لم أزرها مرة أخرى. ليس هذا قراراً بقدر ما هو مصادفة. حين أتيت إلى القاهرة، أول مرة في حياتي، قبل سنوات طويلة، بقيت رائحتها في ذاكرتي. كان صوت داخلي يقول لي إن شيئاً ما سيربطني بهذه المدينة الغريبة، وها أنا عالقةٌ في محبتها لا أستطيع مغادرتها.

حين أشتهي طعاماً ما قبل أن أستعيد مذاقه، أستعيد رائحته. حين كانت أمي تطهوه، لم تكن رائحة الطعام فقط، بل رائحته ممزوجة برائحة أمي. أشتاق لابنتي، فأشم رائحة شعرها، وأستعيد رائحتها الحامضة الحلوة وهي طفلة. لابنتي رائحة خاصة قوية قلقة، تشبه شخصيتها، أستطيع أن أشمها حين تكلمني على الهاتف، أو تكتب لي، فأعرف وضعها النفسي من الرائحة التي تأتيني من الصوت أو الكتابة. للصوت رائحة أيضاً، مثلما للأحرف. حين أقرأ لشاعرٍ أحبه، ولا أعرفه، أتخيل رائحته، وحين أقابله أول مرة أشم الرائحة نفسها التي تخيلتها. روائح العطور ليست هي نفسها على كل الأجساد. العطر نفسه تختلف رائحته من جسدٍ إلى آخر، يمكنك في لحظةٍ أن تقول إن هذا العطر متعبٌ أو فرحٌ أو حزين، تنعكس رائحة من يضع العطر على رائحة العطر وتمتزج به. رائحة الشخص هذه ليست هي نفسها أيضاً، إنها تختلف قليلاً تبعاً لحالته النفسية. أحياناً أنفر من الأشخاص من رائحة أشمّها بهم. ثمّة حدسٌ يقول لي وقتها أن ابتعدي، هذا الشخص غير مريح. يحدث العكس أيضاً، ثمّة بشر بلا أية رائحة، هؤلاء أصلاً بلا ملامح ولا ذات.

ثمّة شيء انتبهت له أخيراً، حين أذهب إلى شراء ملابس داخلية، أستعيد وأنا أبحث عما أريده عن رائحة الدرج الذي كانت أمي تضع فيه ملابسها الداخلية، رائحة خاصة لا يمكنني نسيانها. للأقمشة أيضاً روائحها، للموسلين رائحة الغواية، للشيفون رائحة الرغبة، للقطن بتفرعاته رائحة الجدية، للحرير رائحة التاريخ! في العلاقات الجسدية، يقال عن كيمياء ما بين الجسدين، هذه الكيمياء ما هي إلا رائحة الجسدين، تتآلفان أو تتنافران، للحنين رائحته أيضاً. أتذكّر ماضي حياتي، وأشم تلك الخلطة من الروائح التي شكّلت حياتي. بيتنا القديم في دمشق وروائح أصدقاء عائلتي، رائحة المكتبة الضخمة، رائحة تنقلنا من بيت إلى آخر، رائحة القلق واللااستقرار، رائحة قريتي وأصدقائي. أتذكّر سورية اليوم، وأشم رائحة الخوف. أشم رائحة الدم الطازج، وأنا أشاهد صور الموت اليومي هناك، رائحة القهر أيضاً.

تحتاج العلاقة مع الروائح إلى تدريب الخيال والذاكرة لفهمها، ربما ساعدتني علاقتي مع الشعر على ذلك. آخر رجل أحببته لم أستطع نسيانه، على الرغم من كل محاولاتي لذلك. الوحيد ممن عرفتهم تقريباً في حياتي رائحته تشبه رائحة أبي.

 

دلالات
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.