في ضيافة موتى السلفادور

01 سبتمبر 2014
تصوير: خوسيه كابيزاس
+ الخط -

حين تفكّر في زيارة العاصمة السلفادورية، سان سلفادور، عليك أن تمرَّ بمقبرتها كسائح ومتفرِّج ليس على القبور بل على العروض المسرحية التي حَوَّلت تلك الأضرحة إلى مسارح  مُصغّرة.

في مدخل المقبرة تُوزَّع ميداليات لجماجم بشرية تُهيّئك للدخول إلى عالم فانتازي. تسير قليلاً فتتفاجأ بنساء متجمدات بلباس أبيض كأكفان الموتى. تتحس وجوههن كي تتأكد أن حياةً ما زالت تدب فيهن وأنهن لا ينتمين للعالم الذي يقفن فوقه.

حول كل ضريح تدور قصة ما يحوّلها السلفادوريون إلى أسطورة لينقلب العالم السفلي إلى عالم من الأشباح ينقلك إلى عقود ماضية بأثواب الممثلين الكلاسيكية وأدائهم المتميز.

ولو كانت للموتى حاسة السمع لاستمع الشعراء الراقدون إلى أشعارهم التي يلقيها الممثلون تماماً كما الجمهور، ولأطربت المقطوعات الغنائية آذان الموسيقيين الذين ألفوها منذ عقود، وذلك بفضل تلك العروض المسرحية التي أعادت الروح إلى هؤلاء المشاهير وأعطت للموت إكسير الحياة.

بدأت فكرة إقامة المقبرة عام 1849. كانت العائلات الأرستقراطيَّة تُزيِّن قبور أفرادها بجلب منحوتات وتماثيل ضخمة من رخام فاخر للمقابر من إيطاليا ليصل بعد نحو ثلاثة أشهر إلى السلفادور عن طريق المكسيك. ثم ما لبثت أن تحولت المقبرة إلى مكان يضم أهم المشاهير من أدباء وموسيقيين وسياسيين ورياضيين، ما حدا بالجهات المسؤولة إلى تحويلها إلى مسرح كبير يُعَرِّف بهم بشكل مباشر، خصوصاً وأن لكل ضريح منهم تقريباً تمثالاً خاصاً يشير إلى ما كان عليه في حياته.

فها هي طائرة رخامية تنتصب على ضريح طيار إيطالي شارك في الحرب العالمية الأولى ثم انتقل إلى السلفادور وأسّس أول مدرسة للطيران وقضى في حادث طائرة. وعلى طرفٍ آخر تمثال أشهر عروس في السلفادور تُنسج حولها عدة روايات، إذ يقال إنها انتحرت أو سُمِّمت ليلة زفافها من قبل السكرتيرة عشيقة عريسها عام 1924.  يزعم أهل سان سلفادور أنهم يرون طيفاً ونوراً أبيض يسبح فوق القبر في بعض الليالي، ويؤكد ذلك حرّاس المقبرة والممثلة التي تُصدر صوت نحيب أثناء تأدية دورها، حيث تصرّ أنها غالباً ما تسمع صوت بكاء لا تعرف مصدره.

أما الضريح الذي يعلوه تمثال ذئب فهو لإحدى العائلات الأرستقراطية ذات الأصول الإيطالية التي استوحت الفكرة من أسطورة الذئبة المسماة لوبيركا وهي تُرضع ولديها رومولوس وريموس.

وعدا عن الخرافات والأساطير التي تُحاك حول الموتى في تلك المقبرة، يقبع تاريخ من الحرب الأهلية بين جنباتها. فبطل العالم لكرة التنس في الستينات فيديريكو مياردي ـ وهو من أصول إيطالية ـ كان قد اعتقل في السجون النازية قبل أن يستقر وعائلته في السلفادور ليتحول إلى أرستقراطي اغتاله أفراد من الحزب اليساري إبان الحرب الأهلية.

وفي منتصف المقبرة ضريح مميز بمساحته ومنحوتاته، يروي ممثّل سيرة حياة موحد أميركا الوسطى بعد الاستقلال، خوسيه مانويل روساليس، الذي مات قتلاً لتتفكك الدول مرة أخرى إلى أجزاء صغيرة. يتمتع هذا القبر بحراسة مشددة خوفاً من سرقة الرفات؛ فروساليس الهندوراسي الأصل أوصى بدفنه في السلفادور، بينما ترى الحكومة الهندوراسية أن الهندوراسيين أحق بالرفات، لتصل إلى نتيجة ترضي الطرفين برأيها وهي اقتسام الجثمان، الأمر الذي رفضته السلفادور جملة وتفصيلاً.

ومن عجائب المقبرة أنها ضمت في قبرين قريبين جداً من بعضهما زعيمين سياسيين لم يكيلا سوى العداء لبعضهما في حياتهما. إذ نَمرّ أولاً بقبر الزعيم شفيق حنظل ـ وهو من أصول فلسطينية، ويعتبر الزعيم التاريخي لثوار "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني" في السلفادور، وأحد القادة الرئيسيين للجبهة، وزعيم الحزب الشيوعي بلا منازع منذ عام 1973، وهو الحزب الذي كان أحد الفصائل الرئيسية للجبهة في تمردها على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية.

وبمقربة منه قبر الزعيم اليميني روبرتو دوبويسون، مؤسس الحزب اليميني السلفادوري (أرينا) الذي ترأس المجلس التشريعي في الثمانينات وخاض حرباً أهلية طاحنة ضد اليسار بزعامة حنظل، لكن الموت أعلن حالة السلم بينهما إلى الأبد.

أربعمئة قبر وأربعمئة قصة وخرافة وأسطورة تجمّعت في ذلك المكان الذي ضاقت ممراته مع الزمن لكثرة من دفن فيه من العظماء، حتى بدأت بعض العائلات بنقل رفات أمواتها انزعاجاً من ذلك الزحام، لتصدر الحكومة قراراً بمنع فرار أي "عظيم" خارج أسوار المقبرة.

دلالات