في رثاء من لا يُرثى

11 فبراير 2015
ماذا يفعل المحبوب بعد أن نواريه التراب؟ (الأناضول)
+ الخط -

ينام الموت متكئاً على جنبه في الطريق، يرقب المارة بهدوء الذي يتقن عمله في صمت، يرمق عجوزاً تمشي بخطى متلعثمة، تنظر إليه متحدية سطوته وجلاله، يبتسم في وجهها قائلاً "ليس بعد"، يفسح مكاناً في مجلسه لرجل في العقد السادس من عمره، مثقل بالأمراض ويستند إلى ولديه، فيقول له "تفضل لتستريح"، يستريح الرجل ثم يمضي الولدان إلى أشغالهما، يشير بيديه إلى شاب في بلاد الغربة، حنين قلبه ترسمه هرولة أقدامه على الطريق، مع كل خطوة ذكرى قديمة، مع كل شهقة شوق لمحبوب، ومع كل زفرة خروج لتعب حاضر، عيناه مصوبة إلى أهل ينتظرونه في صالة وصول الوطن، يدعوه الموت إلى شربة ماء تعينه على مشاقّ السفر، فيدنو منه مبتسماً، يشرب ثم يشير إلى من يراهم حيث لا يرونه بسبابته "إن ليس اليوم، فإلى موعد آخر".

يلمح فتاة على جانب الطريق زرعت كفيها أزهاراً لتقدمها إلى أرواح شهداء، ربما لا تعرف معظمهم، يقف لها الموت احتراماً ويصافحها، ثم يهمس في أذنها "هذا العالم لا يحب الأيادي المزهرة، فلتأتي معي إلى عالم لا يكره الجمال، ألا تحبين أن تهدي أصدقاءك الورد في مجلسهم؟"، تمضي معه، وتخلف مكانها دماء برائحة الرحيق، يحتضن طفلاً لجأ إلى مجلسه هرباً من رائحة الغاز المسيل للدموع، يقول له "لا تفزع، انظر، عندي حلوى وألوان وكرة وقصص مسلية وملابس للعيد اشتريتها من أجلك"، يهدأ الطفل وينام، ثم تبدأ أمه رحلة العناء، هذا هو الموت الذي يعرفنا، ويبدو منظره جميلاً لمن يعرفونه. هؤلاء وحدهم يذهبون إليه بأقدامهم ويلقونه بالبسمات. هذا هو الموت الذي لا يؤلم عارفيه، وإنما يتألم منه الذين يخلفهم وراءه في الدنيا. فمن ذا الذي صوره لك رجلاً قبيح الوجه يجثم فوق صدرك ويخنقك بيديه؟ الموت لن يفزعك أنت يا صديقي لو عرفته، الموت لن يضار منه إلا مشيّعوك.

وأما عن سؤالك عن السكرات؟ فإن السكرات هي ما يعتري الحي فينا من جزع حين يرحل المحبوب، فلا تفزع، وتذكّر، كم عزيزاً فقدت على مدار عام؟ كم مرة تقبلت العزاء؟ كم رأساً قبلتها ثم واريتها التراب؟ إذن فلماذا لا تعتاد الموت مثل سائر الأشياء التي اعتدتها بالتكرار؟ الظلم، التظاهر، سب النظام، لماذا يظل الموت وحده متجلياً في ثوب الجلال والرهبة؟ لماذا تتلقى في كل مرة خبر الموت بنفس الصدمة؟ الإجابة تكمن في عدم معرفتك الموت أولاً، ثم في هذا الذي يرحل عنك في كل مرة، فكل راحل ترحل معه تفصيلة كانت تربطه بك، وتشكل مع باقي التفاصيل رباطك بالحياة، حتى تأتي لحظة ترحل فيها كل التفاصيل، تلك هي لحظتك، فابتسم له ثم امض راضياً، واترك لنا الآلام، اترك لنا سطوة الظلم ورعونة الحق والشعور بالخذلان، اترك لنا الأنصاف والأشباه من الرجال والنساء والأشياء، خذ ما حلمنا به نحن وأنت، ودع لنا الفشل المُهين، خذ كل الأشياء الجميلة معك، ودع لنا كل قبيح، وابكينا تحت عرش السماوات، وادعُ لنا بالصبر، واطلب لنا الرحمة، فنحن من نحتاجها لا أنت، أنت الآن في عالم لا يزعجه صخب، لا تعكره لوثة، لا يضيقه زحام، ولا تقتله خيانة، عالم فيه الجميل جميل لذاته، ولا مكان فيه لقبيح، فيه ميزان لا يختل، وقصاص لا شفاعة فيه، عالم تنام فيه آمناً، لا خوف فيه من سلطة، ولا حزن فيه على فانٍ، ولقد سألني أحدهم ذات مرة "ماذا يفعل المحبوب بعد أن نواريه التراب؟ فقلت له "ينفض التراب عن وجهه ثم يقف ليتلقّى عزاء أصدقائه الأموات فينا"، هذا هو الموت الذي يعرفنا، ويبدو مريحاً لمن يعرفونه، فيا أيها الراحل هنيئاً لك ما صبوت إليه، ويا أيها الموت ارثنا عند من سبقونا، وأمهلنا حتى نبتسم. 



(مصر)

المساهمون