في معارض الكتاب، يفضّل بعض المنتسبين إلى الصحافة أن يتحوّلوا إلى عسَس. هكذا، يُصبح شغلهم الشاغل هو إجراء "دورياتٍ تفتيش" بين الأجنحة والرفوف بحثاً عن عنوانٍ أفلتته أعين الرقابة ليكملوا المهمّة، بينما يتدحرج الكتاب – كقيمة ثقافية ومعرفية – إلى قاع الاهتمامات.
من الناحية الإعلامية، يُسمّى ذلك سبقاً. لكن، ماذا عن الناحية الأخلاقية من المسألة؟ ماذا عن الصحافي إذ يتحوّل إلى ظهير للرقابة، بأشكالها المختلفة، في مواجهة الكاتب، بينما يُفترض أن يكونا (الصحافي والكاتب)، من حيث المبدأ، في صفّ واحد ضدّ الرقابة، بمعناها الأوسع؟
قبل سنوات، نشرت صحيفة واسعة الانتشار على صفحتها الأولى، وبالبنط العريض، خبراً مفاده أن كتاباً ممنوعاً للصحافي والكاتب الجزائري، محمد بن شيكو، يُباع في إحدى مكتبات العاصمة. المفارقة أن بن شيكو - الذي أُغلقت صحيفته ودخل السجن حيث قضى سنتين - كان حينها يكتب زاوية أسبوعية في الصحيفة ذاتها. بالطبع، تحرّك المعنيّون وصادروا العمل من المكتبات، وبقي السؤال معلّقاً: هل كان ذلك خبراً أم وشاية؟
يتكرّر ذلك بأشكال مختلفة مع كل دورة من دورات "معرض الكتاب"؛ إذ يبدو أن تركيز منظّميه على إعطاء أرقام حول الكتب الممنوعة من العرض (غالباً ما تُتّهم بالمساس بقيم الجمهورية والتحريض على العنف) ولّد رغبةً في البحث عمّا أغفلته الرقابة.
يتوسّع الرقيب ويتمدّد، ويتسلّح بأدوات ومتطوّعين جدد. في مصر، تطوّع أحدهم مؤخّراً برفع دعوى قضائية ضدّ روائي، بعد أن قرّر أن الفصل المنشور من روايته، قبل عام، في صحيفة "أخبار الأدب" يتضمّن "ألفاظاً خادشة للحياء العام".
لكن ماذا عن الكاتب نفسه؟
تُخبرنا التجربة أن الرقابة كثيراً ما خدمت الكاتب وروّجت لكتابه، رغم الآثار الوخيمة التي قد تترتّب عن "فتاوى" الرقيب الديني، وما حدث لنجيب محفوظ، مثلاً، لا يزال ماثلاً للأذهان. رغم ذلك، ثمّة لدى بعضهم نزوع إلى ما يشبه التحرّش بالرقيب.
يبدو أحد الكتّاب الجزائريين (زعم سابقاً أنه تعرّض إلى محاولة اغتيال وأن الإسلاميين أحرقوا إحدى رواياته) كما لو أنّه يستجمع كل العناصر التي من شأنها استفزاز مارد الرقيب وإخراجه من قمقمه، ولعلّه غبط كمال داود في "فتوى إهدار الدم" التي أصدرها ضدّه أحد السلفيين العام الماضي.
تبدو فكرة الرقابة والمنع والقمع ناجعة في استدرار التعاطف وترويج العمل الأدبي. مؤخّراً ردّ بوعلام صنصال على سؤال برنامج تلفزيوني فرنسي عمّا إذا كان يتعرّض إلى مضايقات بسبب أفكاره، بالقول إن إسلاميين في فلسطين أصدروا فتوى بإهدار دمه (لم يسمع بها غيرُه) وأن كتبه ممنوعة من دخول الجزائر.
كان بإمكان الكاتب أن يكون صادقاً ويجيب بأن كتبه تدخل البلاد (كما يدخلها هو) وتُباع في مكتباتها بشكل اعتيادي، لكن ذلك يُفقده قناع الكاتب البطل.
الحقيقة أن الرقابة، تحديداً على الكتب وما يدور في فلكها، تمثّل مسألة إشكالية وتثير سؤالاً في غاية التعقيد: هل علينا أن نكون ضدّها جملةً وتفصيلاً، انطلاقاً من مبدأ حريّة التفكير والتعبير، أم أن ثمّة استثناءاتٍ يجب أخذها بعين الاعتبار؟
ربّما سنلمس إجابة عن السؤال من خلال هذه الحادثة التي جرت في التشيلي، حيث صادرت الحكومة كتاباً قبل أيّام قليلة، ووصفت توزيعه بأنه "خطأ لا يُمكن إصلاحه". في تفاصيل الخبر، أن نُسخةً جنسيةً من قصّة "ذات الرداء الأحمر" الشهيرة (تعود القصّة إلى القرون الوسطى في أوروبا وأصدرها الأخوان غريم سنة 1812) وُزّعت العام الماضي على قرابة 283 مدرسة ابتدائية في البلاد.
لنتصوّر فظاعة أن يقرأ طفل كتاباً بعنوان "ذات الرداء الأحمر تأكل الذئب"، وقصصه التي تتناول إحداها علاقة جنسية بين مدرّس وتلميذة، وتتناول أخرى اغتصاب فتاة في الثالثة عشرة من العمر.
اقرأ أيضاً: الكاتبة وبطلاتها: سماء ملبّدة بالتلصص