في الإيمان بذكاء الشعوب

28 مارس 2017
+ الخط -
 إنني أؤمن، صديقي، أن للشعوب دائماً موعداً مع التاريخ. صحيح قد يتأخر وعي الشعب، وقد يتم خداع البعض منهم لفترة، ويطول الوضع عندهم إلى حين اكتشافهم الحقيقة. وأعرف أنك ممن يشتمون ويتنكرون لأبناء شعبهم من الجهلة والفلاحين وحاملي السواعد وبائعي السجائر على الرصيف وماسحي الأحذية والمجانين. وأعرف أنك تحقد على العاهرات الذين يبدعون في إمتاع الجلاد. ويضحكني كيف تستطيع العيش بكل هذا الحقد تجاه ابن عمك الذي تخرّج في الجامعة معك، وولج صفوف الأمن مرغماً لإطعام عائلته التي تهددها المجاعة بعد عشرات السنوات التي مرت على المخطط الفلاحي الأخضر ببلادنا.


إنني فعلاً أشفق لحالكم أنتم، من يسمونكم أو تسمون أنفسكم "مثقفين"، وأحار في أمر هذا السؤال كيف يحدث ويتنكر الفرد لأبناء شعبه؟ كم يلزمني من إعداد الكتب حتى أصل لهذه المرحلة من التكبر وجلد الآخرين؟ أم أن الأمر لن يكلفني سوى قبعة، وسيجارة، وجريدة، وكتاب أخرق تحت الإبط، وفنجان قهوة على الرصيف، وأطلق العنان لمخيلتي تنهل من قاموس الشتائم المخصص للشعوب الكادحة؟

إنني متحيز أيها العزيز. وإيماني بإرادة الشعوب قوي جداً، وإن كان إيماني بالأمور الميتافيزيقية أكثر عقلانية بحيث أشاركك عدم الصلاة وإفطار رمضان... لكن الشعوب التي تنكرتم لها، وأنزويتم في المقاهي، والحانات مبتعدين عنها، وكأنها ستنقل لكم مرض الجدري، جاء صوتها مزلزلاً وصادماً لكم، وهي تطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية. 

لقد جمعت وجسدت هذه الجماهير "الجاهلة والمتخلفة والتي لا تقرأ"، كل المفاهيم الكونية التي تجمدت في مؤخراتكم وأنتم تقرؤون عنها في خطوات ميدانية. وأسقطت الجلاد الذي نال حظه من نصائح بعض كلاب الحراسة عندكم ليستمر في السلطة أطول مدة ممكنة. لكن ها هي الجماهير بعفويتها وبعدم تنظيمها تصنع مصيرها وتحرك وتبعث الوحل ليعتلي المياه. 

اسمح لي بالقول إن التاريخ يشهد مجدداً كون الثورة الفرنسية مثلاً لم يصنعها مونتيسكيو ولا جون جاك روسو ولا فولتير... بل صنعتها الجماهير التي قدمت روحها لتشكل الروح الكلية لفرنسا اليوم، وما فعله هؤلاء المفكرون لم يكن سوى عملية تجريد وصورنة وتتبع وصياغة تطلعات الجماهير والتعبير عنها في قوالب جاهزة فكرية وسياسية واقتصادية وروحية لتشكل أساس الدولة الحديثة. لكن هل وجدتكم الشعوب الإسلامية بجانبها في ربيعها أو بالأحرى خريفنا لتفعلوا أمراً كهذا وتنصتوا لروح شعوبكم، بدل روح المصلحة الشخصية والخوف والتشاؤم الذي استحوذ عليكم.  

إن الشعوب التي ضحت من أجل الوطن وسالت دماؤها واختلطت بوحل الوطن، لم يتم إعدادها في نظرهم لتكون في مستوى الاهتمام بالشأن السياسي والانخراط في الصراع الإيديولوجي. ويمكن أن يُسرق الوطن أمام أعين الشعب في عملية سحرية من خبراء سراق الرغيف، دون أن ينتفض صوت الشعب لقطع يد السارق. وإن وجد منكم واحد جريء عشيرة المثقفين ودلنا على السارق لن يجد من يسمع له، لأنه بكل بساطة نسي أن يكتب في الإهداء قبل مقدمة كتابه "إلى شعبي الذي لا يعرف القراءة، لأن دولتنا حرمته من ذلك".

ورغم هذا فالشعب له مقياسه بخصوص الاستبداد، ويتحرك عندما يدعو التاريخ إلى ذلك. ومهما طال الزمان فلا بد أن يستجيب القدر لإرادة الشعوب. وفي أفق تحقيق وعي شعبي يرقى لتطلعات الصراعات الإيديولوجية وينتصر في اختياراته بسرعة لما هو كوني وإنساني، فإن الظرفية مواتية لتقرأ عشيرة المثقفين ما كتب حول أوهام النخبة وأسطورة الإطار، أو حديث إدوارد سعيد عن خيانة المثقفين، وأنصحكم بقليل من الجرأة لتفتحوا كتاب، هيلين توماس الصحافية الأميركية، ذات الأصول اللبنانية بعنوان "كلاب حراسة الديمقراطية"، وإن كانت تتحدث عن وسائل الإعلام فلا بأس بقياس مع الفارق. 

 الإشكال سيصبح هو: كيف تحول المثقف من حارس للديمقراطية ينقضُّ على كل من يحاول النيل منها إلى كائن أليف وخنوع، خصوصاً بعدما رأينا أن المسرحية الديمقراطية التي صدقها الشعب، وانخرط فيها، تنقلب على نفسها في العديد من بلدان الربيع الديمقراطي، لتستمر نفس الكراكوزات على خشبة المسرح في عرض بئيس كاد الشعب يفقد جنونه وهو يحاول حل عقدة الديمقراطية التي كلما اختار لنفسه شيئاً من داخلها حصل على نفس النتيجة. إن التاريخ وحده كفيل بحل العقدة، عندما تتوحد فيه إرادة المواطنين، بعد الخروج من التبعية وعقلية القطيع والعصبية القبلية والدينية، وتتحرروا أنتم أنفسكم من أعطاب جنونكم المخجلة في أفق التحرر الشامل.