في آخر أيام السنة

31 ديسمبر 2014

صيادون في قواربهم في بحر غزة (24 ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

في آخر أيام سنة 1981، توفيت جدتي لأبي، كنت صغيرةً، لا أعرف من الموت سوى الملابس السوداء التي يرتديها أهل الميت أربعين يوماً بعد الوفاة. في ذلك اليوم، حزنت حزن طفلةٍ، كانت تعتقد أن الحياة تحقق الأحلام، طالما تمسكنا بها، فجدتي، ومنذ وعيت ما حولي، لم تتوقف عن انتظار تحقق حلمها، وترقب يوم عودتها إلى قريتها التي هُجِّرت منها في عام النكبة، وكانت تجلس، وتلتف حولها الجارات، فتصدق قارئة كف أو ضاربة ودع، وكل من ينبئونها أنها ستعود إلى قريتها، حتى أنها حين يحك قطها أنفه تهلل وتوزع الحلوى، تفاؤلاً واستبشاراً.
 في صباح آخر أيام العام رحلت جدتي، وتركت تحت خزانتها العتيقة التي كانت تسميها "النملية" صحناً خزفياً عجنت به الحناء، وكانت تخضب بها يديها، كلما رأت رؤية في منامها، تفسرها جارتها لها بأنها ستعود إلى "البلاد"، لكن ذلك لم يحدث، وماتت جدتي وبقي حلمها معلقاً سيفاً في غرفتها، يطعن قلبي كلما دخلتها، ولم أر وجه جدتي الطيب المكتنز. وهكذا تعلمت أن العودة لا تحققها الأحلام فقط.
في آخر أيام السنة، كنا نحصل على إجازة نصف العام، ونسافر لقضائها في مصر، وعلى معبر رفح، تعلمت درساً آخر، هو معنى أن تكون بلا "أب"، فقد كان جدي يعلق على الإذلال الذي كنا نراه من مسؤولي المعبر المصريين، ونحن ننتظر في قاعة واسعة تفتقر للنظافة، وتصطف بها مقاعد مهشمة، ونقف ساعات ويجلس المسنّون أرضاً لكي نستلم جوازات سفرنا التي يختمها من "أمن الدولة"، ويسمح لنا بالعبور بعد التفتيش الدقيق لحقائبنا، وكان جدي يعلق: "اللي مالوش أب بينضرب من كل الحارة". وكنا نرى صنوف الذل من الجانب الإسرائيلي، ونحتمل لأنه عدونا الذي يحتل أرضنا، لكن ما كنا نذوقه في الجانب المصري لم نستطع استساغته وابتلاعه، لأنه من أخوة وأشقاء، ولأن رابطة تاريخية تربط مصر وغزة. وعلى الرغم من ذلك، كانوا يعاملوننا كـ"إرهابيين"، ويسمحون لباصات السياح الأجانب بالدخول قبلنا، ولا يقفون لحظة أمام شباك ختم الجوازات، فيما ننتظر نحن ساعات أمام الشباك، وحين يخرج جندي مصري من باب غرفة صغيرة، وينادي اسم أحد المسافرين، نرفع رؤوسنا متوجسين، فمعنى ذلك أن صاحب الاسم سيعود إلى غزة.
 بقدر ما أحببت مصر، بقدر ما كرهت السفر الذي هو قطعة من العذاب، لكنه كان عذاباً مضاعفاً على معبر رفح، ونسافر سفر المضطر في آخر أيام السنة، ومع بداية الإجازة الصيفية أيضاً لعلاج أمي، وعقلي الصغير يسأل السؤال نفسه كل مرة: لماذا يفعلون بنا ذلك؟
في آخر أيام 2008، وكان العدوان الأول على غزة قد بدأ، استشهد ابن خالتي الذي يصغرني بأربعة أيام، وقد هرعت جدتي لخالتي، لأنها وضعت مولوداً ذكراً، وتركت أمي لأنها وضعتني "أنثى". لكن، حين كبرت، بقيت جدتي تباهي بتفوقي، وتعيّر ابن خالتي بتعثره الدراسي، وتضحك وتقول له: ليتني لم أركض لأمك يوم وضعتك. استشهد ابن خالتي، وكان يعد نفسه، هو وزوجته، للسفر إلى مصر، أملاً في علاج عدم الإنجاب، وفي كل مرة، تعيده السلطات المصرية من معبر رفح إلى غزة، حتى رحل رحيله الأخير.
في صباح هذا اليوم الأخير من العام 2014، سأتخلص من أدوات الطعام الزجاجية المهشمة الأطراف، وهي عادة قديمة يمارسها محتفلون برأس السنة، يهشمونها مع دقات منتصف ليل رأس السنة، ويتبادلون التهاني والأمنيات، أملا في فأل حسن، أما أنا فسأفعل ذلك أملاً في التخلص من ذكريات أتعس أيام العام، وهي أيام العدوان على غزة.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.