فوضى الاقتصاد العالمي

14 يناير 2016
على العالم أن يبتكر وسائل لإعادة توزيع الثروة (Getty)
+ الخط -
لم تعد العولمة مجرد مفهوم نتناقش في معناه ومغازيه ومنطلقاته ونتائجه، بل صار حقيقة واقعية تعيش في عقول الناس وحديثهم اليومي. وقد ارتفعت نتيجة لهذا التحول الكبير درجة حساسية الأسواق لكل طارئ جديد، أو استجابة لتغير، ولو كان ضئيلاً في أحد العوامل المؤثرة على مؤشرات الأسواق.
لم يشهد العالم قبل هذا القرن، خصوصاً في الأعوام العشرة الأخيرة، تلاحماً للتداخل في أسواق السلع والأسهم والعملات، كالذي يشهده الآن. ومع أن المنظرين الاقتصاديين الذين وضعوا النماذج الكلية أدركوا تلك العلاقة، إلا أن سرعة التأثر كانت أبطأ وأقل استجابة. أما الآن، فبفعل الاتصالات وسرعة انتقال الأنباء، صار التشابك أقوى وأسرع وأعمق أثراً.
شهدنا يوم 24/9/2015 هبوطاً في أسعار بورصات الصين، تلاه في فترة خاطفة انهيار في أسواق البورصات العالمية، بنسبة قريبة جداً من هبوطها في الصين. وتدخلت الحكومة الصينية في اليوم الثاني، مشترية أسهماً كثيرة، ما أنقذ السوق، وأعاد إليه بعض الخسائر الدفترية التي تكبدها المستثمرون والمضاربون. وتأثرت بفعل ذلك أسواق السلع الرئيسية، كالذهب والفضة، وهبط سعر اليوان الصيني، وارتفع سعر الدولار، وتراجع سعر النفط.
وقد شهدنا في بداية العالم الحالي (2016) كيف تراجعت أسعار الأسهم في بورصة الصين التي عدلت توقعات نموها الاقتصادي إلى حوالي 6%، وتراجع إنتاجها السلعي عمّا كان عليه عام 2014. ولذلك، لما بدأ التداول في الأسواق، صباح الاثنين بعد عطلة نهاية الأسبوع والسنة الجديدة، تراجعت أسواق البورصات، وتراجع سعر اليوان الصيني أمام الدولار تراجعاً كبيراً. وخشية من هذه التقلبات، حصل إقبال على الذهب، فارتفع سعره. وشهدت سوق النفط تراجعاً كذلك دفع سعر النفط الخليجي في أسواق الخليج إلى دون الـ 26 دولاراً للبرميل (مقاساً بمؤشر دبي).
لا شك أن مثل هذه التقلبات سوف تُحدث حالة عميقة من القلق، والتوقعات السالبة لدى أصحاب المدخرات، وسوف تؤدي هذه الوكسات إلى تراجع دخل متوسطي الدخل في معظم دول العالم لصالح البنوك، خصوصاً في الولايات المتحدة. ولذلك، فإن الدولار مرشح لمزيد من الارتفاع، وكذلك الذهب، ولكن بنسب أقل، لأن بعض الدول قد تلجأ إلى بيع جزء من موجوداتها الذهبية النقدية، ما سيؤدي إلى ضبط الارتفاع في قيمته. أما النفط فإنه مرشح لمزيد من التراجع في ظل الفائض الموجود حالياً منه.
بدأت حالة الفوضى السارية في الاقتصاد العالمي تثير أسئلة حساسة حول مستقبل العالم واستقراره. لا يستطيع أهل الأرض (4ر7 بلايين نسمة)، أن يقبلوا أن 1% منهم (74 مليون نسمة) يستأثرون بحوالي 99% من الثروات والدخول، وهؤلاء ربما يملكون أكثر من ذلك في المستقبل القريب.
يشهد العالم حالياً انتقالاً كبيراً في الثروات داخل الدول وفيما بينها. ونرى أن الأغنياء في كل دولة لا يدعون فرصة إلا استغلوها، لكي يزدادوا ثراءً. ويذهب جزء كبير من هذه الأموال إلى استثمارات وودائع في الدول الغنية، والتي يجد أغنياؤها فرصة لاقتناص هذه الثروات. ولذلك، أصبح اثرياء دول العالم الثالث، وحتى الدول الناهضة، وسيلة لإعادة توزيع الأموال والثروات من الأفقر إلى الأغنى في الدول الثرية.

لقد بيّن الكاتب الفرنسي بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" أن سوء توزيع الدخل في الوقت الحاضر على المستوى العالمي هو الأسوأ في تاريخ البشرية. ويعزو السبب في هذا إلى تراجع عائد العمل لصالح عنصر رأس المال، أي أن معدل الرواتب والأجور بقي ثابتاً أو متراجعاً بلغة القوة الشرائية، بينما ارتفعت الأرباح وعوائد رأس المال أضعافاً مضاعفة.
وتدخلت أسباب كثيرة لإفراز هذه النتيجة، وأهمها أن عدد سكان العالم ازداد بشكل كبير، خصوصاً في الدول النامية. ودخلت دول كبيرة كانت إما منعزلة عن العالم، أو مختبئة خلف جدران الحماية، إلى السوق العالمية. ومن ذلك الصين بعد موت زعيمها ماوتسي تونغ وهزيمة الثورة الثقافية، ودخول الهند بالتكنولوجيا والصناعة، وإندونيسيا وماليزيا وتركيا والبرازيل بالتصنيع وبيع المواد الخام بعد فترات حمائية طويلة، لكن الأهم هو تفسخ الاتحاد السوفياتي، واستقلال كثير من جمهورياته، ودخولها المسرح الاقتصادي العالمي الرأسمالي.
ولذلك، تراجعت قوة النقابات العمالية، وخفتت الأصوات المطالبة بالإصلاح، بل وقدمت سياسات لتوفير المال بأرخص الكلف باسم "التسهيل الكمي"، حيث لم تزد كلفة الاقتراض عن 2-3%، وتدعم الاستهلاك على حساب الاستثمار الفردي والأسري، وصارت وسائل الدفع الآجل والاقتراض عبر البطاقات البلاستيكية المكلفة محفزة على الاستهلاك والمباهاة.
نتيجة كل هذه التطورات بتعقيداتها، برزت سلوكيات بشعة وغير مألوفة، فإنشاء الشركات الوهمية، والمتاجرة بالأسهم، والمضاربة بطرق لم تعرف سابقاً، والرهان على النتائج، وصل إلى تريليونات الدولارات. وصارت ظاهرة "مادوف" لتحقيق الثراء السريع، أو الوعد به، أكبر "نصبة" عرفها التاريخ، حيث وصل الأفراد الواثقون في تجارة المضاربة إلى مئات البلايين من الدولارات.
وما كان لذلك البالون أو الفقاعة الكبيرة إلا أن تنفجر، وبالفعل انفجرت. ولكن، حوفظ على متسببي الأزمة، كالبنوك والمؤسسات المالية وسماسرة الأسهم وكبار المستثمرين المؤسسين. فلقد اضطرت إدارة أوباما ودول أوروبا المتعثرة إلى دعم هؤلاء، حتى لا يسقطوا، خصوصاً وأن شبح الإفلاس بدأ ينتقل من شارع البورصات إلى شارع الإنتاج والأسواق السلعية والخدمية.
ولما تجاوز العالم الأزمة، عدنا إلى سابق عهدنا. ولكن الفوضى بسبب الحروب، واضطراب الشعوب في ظل الهوة الفاصلة بين الممكن لها والعيش الهانئ الذي تسعى إليه صارت عميقة وواسعة، فإن الأمن العالمي صار في خطر. إن مسرح الشرق الأوسط، وتصارع القوى الدولية والوسطاء الإقليميين ليس إلا صورة مصغرة لما قد يجري في العالم.
والخيار إما استمرار في حروب الإنابة على حساب الشعوب المستضعفة، أو أن العالم يبتكر وسائل لإعادة توزيع الثروة والدخول بشكل أكثر إنصافاً يمكّن الجميع من التعايش السلمي.

اقرأ أيضا: أسعار النفط إلى أين؟
المساهمون