فنون الثورة

05 يناير 2016
عمل فني لـ رينوار(Getty)
+ الخط -
في رواية: يوتوبيا، المنشورة سنة 2008، نَـجدُ الروائيَّ أحمد خالد توفيق( المولود سنة 1962) يَــتـخـيَّــلُ مصرَ في سنة 2023( توفيق، 2012). فبعدَ أزمةٍ اقتصاديةٍ خطيرة، اختفتْ الطبقةُ المتوسطة، وانقسمَ البلدُ إلى قسمين: من جهةٍ، هناك أقليةٌ قليلةٌ مُـحـصَّــنـةٌ داخل تجمعات مغلقةgated communities من الرفاهية، على طول الساحل الشماليِّ للبلد( ومن اسم أحد هذه التجمعات، "يوتوبيا "، جاءَ عنوانُ الرواية)؛ ومن جهةٍ أخرى، هناك بقية السكان، هؤلاء الذين تسميهم تلك الأقلية بـ "الآخرين" ـ الذين وصل فقرهم إلى حدِّه الأقصى، وتركتهم الدولة يواجهون مصيرهم بأنفسهم بعد أنْ لم تعدْ قادرة على تقديم أيِّ خدمة عمومية.
ومع ذلك، ينبغي لنا أن نُـعيدَ فحصَ تحولات الحقل الثقافيِّ المصريِّ في سنوات الألفية الجديدة من أجل أن نفهمَ، وفي الوقت نفسه، كيفَ وَظَّــفَ هؤلاء الفاعلون الجدد فضاءً عمومياً في حالة ثورةٍ ما بين 2011 ـــــ 2013، وكيفَ أنتجتْ هذه الأخيرةُ ممارساتٍ وإنتاجاتٍ ثقافيةً جديدة. والتحقيقاتُ التي أنجزها يوسف الشاذلي في الإسكندرية تُـوضح كيفَ شهدتْ المدينةُ الثانية في البلد، وعلى مدى العقد السابق على الثورة، تأسيسَ مشهدٍ ثقافيٍّ " بديلٍ " من خلال خَـلقِ عددٍ من الجمعيات والمنظمات الثقافية، التي كانت مع ذلك في علاقاتٍ معقدةٍ بمؤسسات الدولة، وخاصةً مكتبة الإسكندرية التي تأسستْ سنة 2002؛ وتوضح كيفَ وظَّــفَ هؤلاء الفاعلون الجدد، و"بشكلٍ طبيعيٍّ، الفضاءَ السياسيَّ انطلاقًا من يناير 2011( الشاذلي، 2013).

ويُـعتـبَــرُ فيلم أحمد عبدالله: ميكروفون(2011)، الذي عَرَضته القاعات السينمائية بمصر يوم 25 يناير 2011، من أحسن الأمثلة البَـصَـرية، وهي تقع بين التوثيق والتخييل، التي تُـشخِّـص ميلادَ هذه الثقافة البديلة بالإسكندرية ما بين سنوات 2005ـــ 2010. وإن كان يركز على الموسيقى، فإنه يُـخصِّـص مكانًا أيضًا لهذه الممارسات الجديدة للكتابة على الجدران( الجرافيتي ) التي أصبحت، وهي تُـصَـنَّــف تحت اسم فنون الشارع Street Art الأكثر نوعيةً والأكثر نبلاً.

ففنون الشارع، والشعر، والمسرح، والغناء هي الأشكال المفضَّــلة في " فنون الثورة ". وهناك خاصيةٌ أخرى في فنون الثورة، أنها تبحث عن كيفية الاستغناء عن قنوات الإعلام المألوفة: فهي تُــوظِّــف الشارعَ ( والمثالُ الأكثرُ شهرةً هو الاحتفالات الدورية التي تحمل اسم: الفنُّ ميدانٌ، وبالطبع فهي إشارةٌ إلى ميدان التحرير ــــــــ كأن ذلك تعبيرٌ عن طموحٍ طوباويٍّ إلى اندماج الفضاء العموميِّ والفضاء الثقافيِّ)... ويتساءل الباحث: ماذا نعرفُ اليومَ عن هذا الغليان الثقافيِّ؟ وكيفَ نَـدرسُــه؟ وهل نقول أنْ لا جديدَ تحت الشمس؟
نعم نُــقِــرُّ بذلك القول، لكن من جهةٍ أخرى، وبشكلٍ مطابقٍ لأبحاث علماء السياسة وعلماء الاجتماع الذين وضَّــحوا كيف أن التحولات التي عرفها الحقلُ الثقافيُّ انطلاقاً من 2011 قد كانت في مرحلةِ مخاضٍ خلالَ السنوات السابقة، وخاصةً في ما بقينا نسميه بــ" الثقافة الشعبية "، وظهور أو عودة الأشكال الثقافية " الوسطى "( بالمعنى الذي يعنيه بورديو، بخصوص الفوتوغرافيا، عندما يتحدث عن " الفن الوسط ")، وكلها عملت على تكسير تلك الحدود بين "الثقافة العليا" و"الثقافة الشعبية" التي حرصتْ النخبُ الأدبيةُ والثقافيةُ على تشييدها منذ بداية النهضة. وحتى مطلع الألفية الثالثة، هل سَـنميلُ إلى الاستنتاج بأن الحقلَ الثقافيَّ العربيَّ قد بَــقي يعيشُ داخل المتخَــيَّــل الذي تشكَّــلَ خلالَ عصر النهضة، منعطفَ القرن العشرين: وبإيجازٍ، إنه متخَـيَّــلٌ فيه نَـصبتْ نخبةٌ نفسَــها، وهي تشملُ السياسيَّ والثقافيَّ والفنيَّ، مسؤولةً عن مشروع التحديث في مجتمع يُــنظَــرُ إليه على أنه متأخِّرٌ ولابد من قيادته إلى طريق التقدم والأنوار. ولابد أن نسجِّــلَ ـــ يقول المستشرق الفرنسي ــ أنها رؤيةٌ نخبويةٌ لكنها مشتركة بين نخب "العلمانيين" وبين نظرائهم من الإسلاميين ـ وليس من دون دلالةٍ، بهذا الصدد، أن يُــسمَّــى أكبرُ حزبٍ تونسيٍّ بمرجعيةٍ إسلاميةٍ بـحزب النهضة؛ أو أن يختارَ الإخوان المسلمون المصريون عبارة نهضة عند تسمية مشروعهم السياسي سنة 2012. وبهذا المعنى، فـالــجِــدَّةُ الراديكاليةُ للثورات العربية تكمنُ بالضبط في تجاوز هذا " النموذج النهضوي".
المساهمون