عاد النقاش حول الدولة الواحدة في السنوات الأخيرة إلى التداول إعلامياً، نتيجة المأزق الذي دخلته عملية التسوية، وتبدي استحالة تطبيق حل الدولتين لقطاع من الناس يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، في ظل الواقع على الأرض الذي أنشأته إسرائيل على مدار أزيد من ربع قرن منذ توقيع اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية، وتعمل على ترسيخه ومده بأسباب الاستدامة.
هذا النقاش، وإن تصاعد أخيراً، إلا أن مقدماته ترجع إلى مطلع العقد الأول من القرن الجاري، عندما وصلت "عملية السلام" إلى حائط مسدود بعد رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات الإملاءات الأميركية-الإسرائيلية في مفاوضات كامب ديفيد الثانية، وتفجر الانتفاضة الثانية. كانت معطيات الواقع في ذلك الوقت المبكر نسبياً تكفي للخروج باستنتاج أن "عملية السلام" وفق أوسلو ومرجعياته قد استنفدت حظوظها، وأن قبول القيادة الفلسطينية بمبدأ تأجيل كافة الملفات الوطنية الكبرى إلى مرحلة الحل النهائي كان فخاً مميتاً سقطت فيه. كانت الصورة واضحة حينها، لكن البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ترسخت عقب تأسيس السلطة في الضفة والقطاع جعلت إقرار القيادة الفلسطينية - التي هي جزء من تلك البنى - بذلك الاستنتاج بمثابة انتحار. فهذه البنى غير مهيئة ولا مصممة ولا تستطيع بتشابكاتها الدولية الاقتصادية والتمويلية والسياسية، سواء في الضفة أو غزة؛ مواجهة بدائل انهيار الكيان السياسي الفلسطيني دون الدولاتي الذي تشكل بعد أوسلو، ودخل طور التحول إلى كيانين بعد سيطرة حماس على غزة.
سياسة شارون والغطاء السياسي الأميركي أنهيا أوسلو
في تلك الفترة نفّذ شارون انسحابه الأحادي من غزة، وشرع في إقامة جدار الفصل العنصري داخل الأراضي الفلسطينية، واجتاح جيشه الضفة الغربية بالكامل، وحاصر عرفات - اعتقله عملياً - في جناح صغير معزول داخل المقاطعة في رام الله، قضى فيه معظم أيامه الأخيرة.
لم تكن العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة لمواجهة قوى الانتفاضة المسلحة وحسب، فقد كانت الشق الخشن من عملية أشمل، لها بعد دولي، استهدفت تقويض ما تبقى من مقومات مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67 داخل المؤسسة الفلسطينية. أما شقها الناعم أو السياسي فتمثل بمجموعة من المطالب والإجراءات التي فرضت على القيادة الفلسطينية حينها، أبرزها استحداث منصب رئيس وزراء نقل إليه كثير من صلاحيات الرئيس عرفات والغرض من ذلك علاوة على تحجيم عرفات إيجاد رأس هرم إداري للسلطة منفصل عن رأس الهرم القيادي الوطني، كذلك وضع قيود وضوابط رقابية صارمة على مالية السلطة، علاوة على إعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية لتؤدي بكفاءة أعلى الدور الوظيفي الذي أنشئت في الأساس من أجله، بعد أن تجاوزته خلال الانتفاضة ومارست دوراً كفاحياً إلى جانب فصائل المقاومة.
السياسة الإسرائيلية بشقيها الخشن والناعم حظيت بغطاء من الإدارة الأميركية ترجمته رسالة الرئيس جورج دبليو بوش لشارون بتاريخ 14 نيسان/ إبريل 2004، التي جاء فيها: "وكما يبدو جلياً فإن إطار العمل الواقعي المتفق عليه والعادل والنزيه لإيجاد حل لموضوع اللاجئين الفلسطينيين كجزء من اتفاق المرحلة النهائية سيحتاج إلى إرسائه من خلال إقامة دولة فلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها بدلاً من توطينهم في إسرائيل". "وعلى ضوء الوقائع الجديدة على الأرض، بما فيها مراكز التجمعات السكانية الرئيسية الموجودة في إسرائيل، فمن غير الواقعي أن نتوقع أن تكون نتيجة المفاوضات النهائية عودة كاملة إلى خطوط الهدنة لعام 1949".
وبذلك فقد أقرّت إدارة بوش الابن بمطلبين إسرائيليين أساسيين؛ الأول ضرب مبدأ الالتزام بخطوط ما قبل حزيران 1967، والثاني أن عودة اللاجئين تكون إلى أراضي الدولة الفلسطينية فقط، لا إلى أراضيهم التي شردوا منها إثر النكبة كما نص القرار الأممي 191.
مواجهة الأبارتايد الشكل المستقبلي للنضال من أجل الديمقراطية
نجحت إسرائيل بغطاء من الإدارة الأميركية في إنهاء حقبة ياسر عرفات، بعد أن استنزفت الزعيم التاريخي حتى آخر قطرة تنازل يمكن أن يقدمها، ومهدت لبداية حقبة فلسطينية جديدة بقيادة جديدة. ومع أن هذه القيادة ظلت متمسكة بالمطالب الاستقلالية الأساسية لعرفات إلا أنها لا تمتلك مهارته في اجتراح البدائل السياسية، وبخلافه لا ترى سبيلاً سوى العمل الدبلوماسي لتحقيق تلك المطالب.
شهدت مرحلة ما بعد عرفات الاستمرار في توسعة المستوطنات القائمة وإقامة أخرى جديدة، ومد جدار الفصل العنصري، والإمعان في فصل التجمعات السكانية الفلسطينية وتحويلها إلى معازل، وفي الوقت نفسه تطويع الأجهزة الإدارية والأمنية الفلسطينية، لتعمل على تلبية وتحقيق مصالح إسرائيل في الضفة والقطاع، الأمنية والاقتصادية، في ظل تقويض أي إمكانية واقعية لقيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" بحسب الوصف الأميركي.
أي أن الواقع على الأرض هو دولة أبارتايد واحدة غير معلنة، يعيش فيها شعبان؛ إسرائيلي يهودي يتمتع بكافة الحقوق السياسية والمدنية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وشعب فلسطيني ينقسم إلى فئتين رئيسيتين؛ الأولى من الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويتمتعون بجزء من حقوقهم في دولة تصف نفسها رسمياً بأنها "يهودية"، والفئة الثانية من الفلسطينيين الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية (وهم بدورهم ينقسمون لفئات عدة تبعاً لأماكن وجودهم)، وهؤلاء حقوقهم منقوصة بشكل فادح. الاختلاف بين دولة الأبارتايد الإسرائيلية ودولة الأبارتايد البائدة في جنوب أفريقيا أن الأخيرة كانت تعترف بأنها كذلك، أما الأولى فهي تتهرّب من أي مسؤولية تجاه السكان الفلسطينيين من غير حملة جنسيتها بذريعة عملية التسوية التي يفترض أن تفضي في مستقبل مزعوم لدولة فلسطينية.
صفقة ترامب... تشريع واقع غير شرعي
كما أسلفنا نجحت إسرائيل في إقامة دولة أبارتايد غير معلنة، مستغلة ضعف وسذاجة وفردانية القيادة الفلسطينية المتنفذة التي وقعت في فخ أوسلو وكذلك الظرف العربي والدولي المواتي بشكل غير مسبوق لها. واستمرت الإدارات الأميركية المتعاقبة في توفير الغطاء الدولي لسياسة إسرائيل، ربما الاستثناء الوحيد كان تمرير إدارة أوباما في آخر عهدته الثانية قرار مجلس الأمن رقم 2334 ضد الاستيطان، بينما ظلت القيادة الفلسطينية في زمن عرفات ومن تلاه تتعامل مع الولايات المتحدة كمرجع وضامن وحيد تقريباً لعملية التسوية.
وأخيراً جاءت الرؤية التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الثلاثاء 28 كانون الثاني/ يناير، والتي تم التمهيد لها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قبلها بعامين، وشكلت دعوة صريحة للقبول بالأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل كما هو، أي شرعنة نتائج السياسات الإسرائيلية غير الشرعية بحسب القانون الدولي طوال العقود التي تلت حرب 1967، بما يعنيه ذلك من إنهاء كل المرجعيات القانونية السابقة لما يعرف بعملية السلام. وقدمت الصفقة/ الرؤية مكتسبات فورية لإسرائيل مع وعود بـ"مكتسبات" للفلسطينيين لكن بعد خمس سنوات، وللمفارقة هي المدة الزمنية نفسها التي حددها اتفاق أوسلو للفترة الانتقالية التي كانت يفترض أن تنتهي في أيار/ مايو 1999 وتعقبها مفاوضات الحل النهائي، لكن لا الفترة الانتقالية انتهت ولا المفاوضات النهائية بدأت، وأكدت الدور الوظيفي لأي كيان فلسطيني، بغض النظر عن اسمه، سلطة أو دولة، فهو موجود كآلية إسرائيلية للتحكم في السكان الفلسطينيين، بما يضمن أمن الدولة الصهيونية واستغلالهم اقتصادياً بأقل التكاليف، وعلاوة على ذلك فإن دولة البنتستونات التي سمتها رؤية ترامب "فلسطين الجديدة" لن تكون منزوعة السلاح فقط بل منزوعة السيادة على الأرض، والحدود، وفي علاقاتها الدولية، ما يجعلها في مكانة دون دولة حتى وإن كان المسمى كذلك.
إدارة ترامب كانت دقيقة في توصيف الرؤية لا المبادرة لما قدمته، فهي غير قابلة للتنفيذ لكن تضع إطاراً سياسياً يشكل سقفاً سياسياً لمستقبل منتظر، حين تبرز قيادة "واقعية" فلسطينية جديدة، تقبل بعصفور تظن أنه في يدها، بالضبط كما فعلت القيادة التي وُهِمت بإمكانية خيار الدولتين.
الدولة الواحدة في الميزان الفلسطيني والإسرائيلي
حتى إعلان برنامج النقاط العشر أو البرنامج المرحلي عام 1974 كان برنامج التيار الرئيس في الثورة الفلسطينية المعاصرة ينادي بدولة فلسطين الديمقراطية كهدف نهائي، يتعايش فيها سكان فلسطين التاريخية تحت مظلة المواطنة الكاملة. بعد البرنامج المرحلي ظهر مشروع الدولتين، وتم ترسيمه مع القبول بقرار الأمم المتحدة 242 في المجلس الوطني في الجزائر عام 1988.
منذ البرنامج المرحلي غاب هدف الدولة الديمقراطية الواحدة عن أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى لدى القوى التي عادت لتؤكد تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني بعد معارضتها لأوسلو. فرفضت مشروع الدولتين دون أن تحدد البديل، وبات أعضاؤها وحتى كثير من قيادييها يتبنون الخيار العدمي المثالي الذي طرحته القيادة البورجوازية التقليدية للشعب الفلسطيني، خاصة الهيئة العربية العليا، بعد أن فقدت تمثيلها للشعب والقضية، الذي يمكن تلخيصه بتحرير فلسطين وطرد اليهود.
وفي إسرائيل كان التيار الرئيسي للأحزاب الصهيونية بعد أوسلو داعماً لحل الدولتين على قاعدة عدم العودة إلى خطوط حزيران 67، ولا عودة اللاجئين، ولا سيادة حقيقية، أي كيان مسخ وأداة إسرائيلية للسيطرة على السكان الفلسطينيين. هذه الخطوط العريضة كانت محل اتفاق العمل والليكود دائماً والاختلاف كان على التفاصيل. وعلى هامش التيار الرئيس كان دائماً هناك تيار الترانسفير، وعلى هامش الهامش هناك نخب ثقافية ترى أن إسرائيل دخلت أو ستدخل مرحلة ما بعد الصهيونية، وهؤلاء منهم من دعم حل الدولتين لكن على قاعدة أقل كولنيالية - إن صح التعبير - من التيار الرئيس، ومنهم من دعم حل الدولة الديمقراطية الواحدة.
منذ البرنامج المرحلي غاب هدف الدولة الديمقراطية الواحدة عن أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية
لكن وجود نخب ثقافية تدعم خيار الدولة الديمقراطية الواحدة لا يكفي بالطبع لنرى يوماً ما تياراً يدعمه في الداخل الإسرائيلي في المستقبل القرب أو المتوسط وربما حتى البعيد، فالمسألة إسرائيلياً أكثر تعقيداً بكثير مما هي على الجانب الفلسطيني، فبحسب الباحثة الأميركية فرجينيا تيلي "هناك عقيدتان صهيونيتان تعرقلان حل الدولة الديمقراطية الواحدة، الأولى أن الدولة اليهودية عنصر جوهري وأساسي بالنسبة للبقاء القومي اليهودي، والثانية أن المحافظة على أغلبية يهودية أمر جوهري لاستمرار وطن قومي يهودي على أرض الدولة". بالمحصلة وبشكل مختصر لا يمكن القبول بدولة واحدة ديمقراطية لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل إلا بعد تجاوز الصهيونية.
بالمحصلة السؤال لم يعد دولة واحدة أم دولتين، فخيار الدولتين مات إكلينيكياً منذ زمن. الواقع كما هو اليوم وآفاق تطوره في المستقبل تقول إننا في كل الأحوال أمام خيار وحيد هو الدولة الواحدة. وهذا أمر لن يغيره تسمية الكيان الوظيفي منزوع السيادة (السلطة الفلسطينية) في المستقبل بدولة فلسطين وفق محددات رؤية ترامب. السؤال الحقيقي والذي تترتب عليه مهام عمل ونضال هو أي دولة واحدة؛ هل هي دولة الأبارتايد الإسرائيلية أم دولة فلسطين الديمقراطية؟