اقرأ أيضاً: إيران والتحركات الروسية في سورية: توزيع للأدوار
فرنسا وعقدة الأسد
ولم يكن الهدف من هذا العشاء الدبلوماسي الخروج بموقف موحد أو إعلان نوايا بقدر ما كان هو التشاور حول مبادئ مرحلة سياسية انتقالية في سورية وتوحيد الرؤية حول هذه المبادئ تحضيراً لاجتماعات هذين اليومين في فيينا، في ظل الانفتاح الأميركي على إيران التي ارتأت واشنطن أن تعلن بنفسها دعوتها إلى طاولة المفاوضات.
وبحسب مصادر دبلوماسية مطلعة، فإن فابيوس شدد في "عشاء العمل" على ضرورة وفاء فرنسا وحلفائها لروح مؤتمر جنيف 2012 خاصة نقطتين أساسيتين هما محاربة الارهاب وحماية المدنيين السوريين. كما تم التطرق أيضاً إلى مشروع المقترح الفرنسي الذي تنوي باريس تقديمه لمجلس الأمن الدولي والذي يطمح إلى حظر استعمال البراميل المتفجرة من طرف النظام السوري من أجل حماية المدنيين السوريين.
غير أن النقطة الأهم التي صارت تؤرق الدبلوماسية الفرنسية هي الموقف من الرئيس السوري بشار الأسد، ذلك أن فرنسا هي الدولة الأكثر معارضة لمنحه أي دور، حتى ولو كان رمزياً، في المرحلة الانتقالية التي يتم التفاوض بشأنها. وهذا الموقف هو من بين الأسباب الأساسية لتغييب بقية الأطراف الدور الفرنسي في المفاوضات بعدما دخلت روسيا على الخط لإنقاذ الأسد. وترى باريس أن الأسد بالإضافة إلى كونه متابَعاً قضائياً بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية فهو ليس بالقطع مؤهلاً لحشد دعم شعبي خلال المرحلة الانتقالية من أجل محاربة تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش).
قصة التراجع الفرنسي
يعود تاريخ التقليل من أهمية الدور الفرنسي في الملف السوري إلى نهاية أغسطس/ آب 2013 عندما رفض الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مجاراة فرنسا في رغبتها بتوجيه ضربة عسكرية قاصمة للنظام السوري إثر قيام هذا الأخير باستعمال السلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة. وكان اللاعب الأساسي في هذه القضية هي موسكو التي أقنعت واشنطن وقتها في تدخل عاجل وناجع أيضاً بقبول خطة روسية تفرض على نظام الأسد تدمير مخزونه من السلاح الكيماوي.
وحتى الساعة ما يزال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مسكوناً بذكرى الرفض الأميركي وهو يردد في مجالسه الخاصة بأن أوباما "خذله" في هذه النقطة وبأن ضربة عسكرية موجعة آنذاك لقواعد النظام الجوية وثكناته الرئيسية كانت ستكون لصالح المعارضة المسلحة والجيش الحر وكانت ستقطع طريق سورية على تنظيم الدولة الاسلامية "داعش".
وحاولت فرنسا مقاومة الدور المتعاظم لروسيا في الملف السوري وقررت نهاية أغسطس الماضي بعد الاعتداء الارهابي الذي استهدف قطار "تاليس" الرابط بين أمستردام وباريس، القيام بغارات جوية ضد معاقل تنظيم "داعش" في سورية ومعسكرات تدريب المقاتلين الأجانب الذين يستهدفون فرنسا والدول الأوروبية. غير أن هذه المبادرة ماتت في مهدها تقريباً وفقدت كل احتمالات عودتها بالعافية على الدور الفرنسي بعد التدخل الروسي الكثيف في سورية.
انقسام داخلي حول أداء الدبلوماسية الفرنسية
ويتعرض أداء الدبلوماسية الفرنسية بقيادة فابيوس لانتقادات متزايدة، ولا سيما من طرف المعارضة اليمينية التي بات بعض أقطابها ينتقدون الإصرار الفرنسي على استبعاد الأسد. وبالإضافة إلى الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، اعتبر وزير الخارجية السابق آلان جوبيه أن فرنسا صارت ضحية لما يسميه "التصلب"، وأنها ستؤدي الثمن غالياً بعد أن بات الروس والأميركيون على قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى تفاهم ينهي النزاع السوري مع إشراك إيران. كذلك انتقد وزير الخارجية السابق الاشتراكي هوبير فيدرين الإصرار الفرنسي على مقولة "لا للأسد ولا لداعش". وأكد على أن فرنسا "يجب أن تتعاون مع الروس لإيجاد مخرج للأزمة السورية مثلما تحالف الغرب مع ستالين، رغم جرائمه ضد الإنسانية لهزم النازية خلال الحرب العالمية الثانية".
أيضاً هناك الزيارات المتعاقبة لوفود من البرلمانيين وأعضاء في مجلس الشيوخ إلى سورية في الشهور الأخيرة، الذين تجاوزوا الأعراف الدبلوماسية الفرنسية وذهبوا حدّ تحدّي الرئاسة والخارجية بإشهارهم الوقوف علناً إلى جانب النظام السوري. وآخرها زيارة النواب اليمينيين الثلاثة جون فريدريك بواسون وفيرونيك بيس وغزافيه بروتون للقاء الأسد. وفي تصريح يشبه تقطير الشمع، قال النائب بواسون يوم الثلاثاء بعد وصوله دمشق "إن حل الأزمة السورية يمر بالضرورة عبر الحوار مع الرئيس السوري الموجود على رأس السلطة والمنتخب من طرف الشعب السوري".
نهاية التأثير الفرنسي التاريخي على الشرق الأوسط
وسط كل ذلك، ثمة إحباط متزايد يسود الدوائر الفرنسية بسبب الشعور المتعاظم بنهاية حقبة تاريخية، بدأت بالانتداب الفرنسي في سورية ولبنان ومعاهدة سايس بيكو التي قسمت منطقة الشرق الأوسط، ورسمت لدولها الحدود المتواضع عليها حالياً. وهذا بالضبط ما عبر عنه بوضوح يوم الثلاثاء في واشنطن، المدير السابق للاستخبارات الفرنسية، برنار باجوليه، حين أقرّ بأن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة وحتى إن تغير في المستقبل فسيكون حتماً مختلفاً عن الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية"، وذلك في إشارة إلى انقسام سورية على الأرض بين مناطق يسيطر عليها النظام في دمشق والساحل وأخرى في الشمال يسيطر عليها الأكراد وتنظيم "داعش". وهو نفس الانقسام الذي يشهده العراق حالياً بين المناطق السنية والشيعية والكردية.
هكذا تجد فرنسا نفسها اليوم بعيدة كل البعد عن حقبة كان لها فيها تأثير وازن على الشرق الأوسط وملفاته المعقدة بدءاً من الصراع العربي الاسرائيلي إلى الأوضاع في لبنان وسورية والعراق. وثمة أصوات صارت تتحدث علناً عن ضرورة الاستغناء عن لوران فابيوس من وزارة الخارجية بسبب ما تعتبره "أداءً باهتاً يضرّ بسمعة فرنسا وتاريخها في منطقة الشرق الأوسط".
اقرأ أيضاً: انقسام أوروبي بشأن التدخل الروسي