بعد أن ينهي الطلاب والطالبات الثانوية العامة في غزة، تبدأ رحلة البحث عن الذات في المستقبل من أجل اختيار التخصص المناسب والإكمال فيه. بالنسبة للشباب، فهم واقعون تحت الضغط الاجتماعي للظهور بمظهر المتعلّم حامل الشهادة أمام الآخرين وليرفع رأس والده، فيتوجه للدراسة الجامعية للبكالوريوس أو الدبلوم مهما كانَ معدله في الثانوية العامة.
هذا الزحف غير المسؤول من المجتمع والتساهل من السلطات بالسماح للجميع بالدراسة بمثل هذه المعدلات، عَمل على زيادة عدد الخريجين وعدد الشهادات عديمة الفائدة بالمقام الأول، وبالمقام الثاني عمل هذا الزحف نحو الشهادات على وجود ضحالة في السوق المهنيّة والحرف المهنيّة؛ حيث تقلص عدد من يتوجهون للتعليم المهني بشكل كبير جدًا بالرغم من أن الخيار أمام الشباب مفتوح في مجتمع تطغى فيه الذكورية، مثل غزة.
أما بالنسبة للفتيات، فلا خيار لديهن إلّا أن يكملن تعليمهنّ العالي إن أردنَ ذلك، وأيضًا مهما كان معدّل الثانوية العامة متدنيًا. الخيار الذي كان متاحًا أمام الشباب بالتوجه نحو التعليم المهنيّ، ليس متاحًا للفتيات.
ففي مجتمعٍ منغلق مثل غزة قد تعتبر رغبة الفتاة في تعلّم مهنة حرفيّة أشبه بالجريمة، وعليهِ، فلا خيار أمام الفتاة إلا أن تكمل الطريق نحو الجامعة أو الجلوس في البيْت. وقد بلغ عدد الخريجين في العام الدراسي 2014-2015، في جامعات غزة، 9454 خريجًا من الذكور، و9371 خريجة من الإناث، وفق بياناتٍ من وزارة التربية والتعليم العالي في غزة.
هذا التراكم العددي للخريجين في سوق العمل، عَمِلَ على ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الذكور والإناث إلى نسبة عاليةٍ جدًا. وشهد عام 2015 ارتفاعًا خاصًا في معدلات البطالة، فبحسب مركز الإحصاء الفلسطيني: إن معدل البطالة في قطاع غزة بلغ 42.7% في الربع الثالث من عام 2015 وتجاوز عدد العاطلين عن العمل ما يزيد عن 200 ألف شخص، وبحسب البنك الدولي فإن معدلات البطالة في قطاع غزة تعتبر الأعلى عالميًا، وارتفعت معدلات البطالة بين فئة الشباب والخريجين في قطاع غزة لتتجاوز 60%.
حلم إكمال التعليم؟
بعد اصطفاف الخريجين في سوق العمل دون وجود أي فرصةِ عملٍ حقيقيّة، يلجأ كثير من الخريجين إلى إكمال تعليهم العالي للحصول على درجة الماجستير وما بعدها، وبما أن الدراسات العُليا مكلفة جدًا، فإن أغلب من يلجؤون لهذا الخيار، يسعون إليه عن طريق مِنحٍ دراسية.
يأتي هذا السعي في محاولة لرفع القيمة السُوقية للشخص عن طريق الحصول على درجة أعلى في الدراسة سواء على صعيد التعليم أو العمل. وبالنسبة للذكور، فإن فكرة الخروج من البلد والسفر لبلاد أخرى لإكمال الدراسة هي فكرة عادية، تُطرح على طاولة العشاء وتقبل وكأن شيئًا لم يكن. أما بالنسبة للإناث فإن الأمر ليس بذات السهولة.
فتقبّل موضوع سفر الفتاة لوحدها في منحة دراسية أمر يعد من سابع المستحيلات. بالطبع، مؤخرًا بعض العائلات صارت توافق، ولكن الأغلب ما زال يرفض مما يمنع حلم العديد من الفتيات من السفر إلا بـ "محرم"، وهو ما لا توفره المنحة. المنحة مقيّدة بالشخص الذي يريد الدراسة وحسب وليس بمن يرافقه.
تميل الكثير من العائلات، التي ترفض دراسة الفتاة في الخارج، إلى التحجج بالظروف التي يمر بها القطاع من انعدام أمنٍ وعدم الثقة، وأحيانًا بالعودة إلى المسلّمات والنصوص الدينية، مثل "عصر فتن"، وأحيانًا التحجج بصعوبات السفر عبر معبر رفح وأنه لا يمكن لامرأة أن تسافر لوحدها، وهو ما يزيد الطين بلّة حيث تكون حجة الأخيرة عنصرية مرتبطة بالنوع الجندري.
لا تكفي الفتاةَ الفلسطينيةَ قيودُ الاحتلال والانقسام والفقر والضياع، بل يأتي هذا ليكون قيدًا آخر يمنعها من تحقيق حلمها. كل تلك القيود لم يكن لها يدٌ فيها أو قرار أو خيار، أما قيد "المحرم" هذا فيُفقدها حقها في المنحة الدراسية أولًا وفي أن تصنع نفسها مستقلة خارج بيت أهلها وقبل بيت زوجها ثانيًا [حيث أن الزواج غالبًا ليس خيارًا].
هي اختارت أن تكمل التعليم عن الجلوس في البيت بدايةً، ولكن حينما جاء القرار مُجددًا، لم يكن عائدًا إليها وإنما للمجتمع الذي ما يفتأ يسلبها حقوقها واحدًا تلو الآخر. بعد 12 سنة دراسة مدرسية و4 جامعية. وفي ظل انقسام يضيّق الخناق على رقبة الفلسطينيين، ها هي الفتاة مرة أخرة تكون مجبرة على الجلوس في البيت منتظرة كتابعٍ الشخص الذي يأتي ويأخذها زوجة ويحررها من بيت أهلها ليقيّدها في بيت الزوجية.