أتلصص يومياً، من خَلَل نافذتي الصغيرة التي تطل على شارع جانبي لَفظهُ بحر مرسين، على شاب سوري يقف أمام سيخ شاورما هزيل. كمية الأضواء التي تحيط بالسيخ أكبر من اللازم، والاحتفاء الذي تقيمه الكهرباء لهذا النوع من المأكولات يوحي بأن الشاب قد زهد بصناعته، فلم يكتف بأقل قدر من الإنارة بل بالغ فيها، ولكنه أدار ظهره للسيخ وترك السكين الحادة فوق الطبق، ووقف جانباً بانتظار شيء ما.
لا يتغير المشهد الذي أمامي إلا عندما يتناول رجل الشاورما سكينه وينهال على طبقات الدجاج تقطيعاً، وكأنه ينتقم لوقته المهدور على قارعة الشاورما التي لم يعد أحد يرغب بتناولها.
لا يتغير المشهد الذي أمامي إلا عندما يتناول رجل الشاورما سكينه وينهال على طبقات الدجاج تقطيعاً، وكأنه ينتقم لوقته المهدور على قارعة الشاورما التي لم يعد أحد يرغب بتناولها.
سيخ الشاورما النيء لا يشبه الناضج. تتسلل النار بخفة بين طبقات الدجاج المصفوفة بعناية فتنتفخ صدور الدجاج ويأخذ السيخ شكله المخروطي الشهي، ويدور كراقصة الباليه. تقول الموسوعة المعرفية أن الشاورما ذات أصل أناضولي، ولكن شيفاً لبنانياً، ادعى أنه عمل في فندق برج العرب، قال إن أصل الشاورما سوري!
يهزك الطرب عندما تعرف أن "اختراعاً" من هذا النوع أبدعته المخيلة السورية، خاصة بعد أن وجد له مكاناً في كتاب الأرقام القياسية الشهير، بوصفه أكبر قُطر، وأطول سيخ، فكائناً ما كان منشأ الشاورما، بمجرد اقترابك من واجهة محل في أي شارع من أي عاصمة يحييك معلم السيخ على طريقة قبضايات باب الحارة وكأنه ماركة مسجلة لا تطيب فيها الشاورما إلا من يد قبضاي من هذا النوع.
غيرت الثورة، في سورية، كل شيء، حتى ورقة العملة من فئة الألف خرجت متخلصة من وجه حافظ الأسد.. ولكن الشاورما؛ وعلى العكس من ذلك، أصبح طعمها ألذ، ومنظرها أجمل، وصارت أكثر جاذبية.
في شارع ركن الدين، الشارع الأكثر استقامة بين كل شوارع دمشق، كان محل "أبو حاتم" هو الأكثر شهرة في شمالي دمشق. يزهو السيخ المثالي على سفح جبل قاسيون تحده من الشرق "بَرْزة"، وتحيط به من الجنوب والغرب "الصالحية". لم يكن أبو حاتم بحاجة إلى كمية أضواء هائلة، فشهرته الجاذبة تجعل سيخ الشاورما الضخم يذوب "كالأيس كريما" قبل أن ينتصف الليل، ويمكن أن تجد قططُ الحي ما فيه الكفاية من اللحم ولا تعود بحاجة للتنقيب في حاويات الزبالة بحثاً عن البقايا، لأن فتات الشاورما متوفرة حول المحل، في دائرة نصف قطرها مائة متر، وهناك يتحلق الجائعون والمتسولون وكذلك العشاق.
يقال إن الحرب دفعت بمعلمي الشاورما للهجرة إلى الإمارات ومصر وتركيا، إنه نزيف "تقني" من نوع آخر. وما زال أبو حاتم يبيع الشاورما ويرفع سعره كما يرتفع سعر صرف الدولار، لم ينزل مستوى الشاورما حتى مع تغير نوعية الخبز، ولكن القطط التي ترتاد المحل أصيبت فجأة بصدمة، واقتصر عملها على الوقوف من بعيد وتسديد نظرات شفقة إلى مجموعة آكلي شاورما أبي حاتم الجدد.
كنت أتناولها وحدي وأُكثر الطلبات على أبو حاتم: "كتِّر مخلل، قلل توم، ما بدي ياها ناشفة". وكان لي رفيق طويل القامة يسير إلى جانبي ويلتصق بي أحياناً، وأسمح له أن يدس يده في جيبه ليخرج ولاعته ثم يشعل سيجارة، فأقول له: لا تدخن قبل أن تأكل.
فيرد وقد شجعته الكلمة على أن يقترب أكثر: سأدخن قبل وبعد الأكل..
الشاب الذي يبيع الشاورما خلف غرفتي المنزوية، ويقال له بالتركية (dönerci)، قال لي قبل يومين، بقلة اكتراث، إنه سيقفل المحل! رأيته يشعل سيجارة وراء أخرى، ويتسلى بطرد القطط الملحاحة، فنزلت ووقفت أمامه. لا يبدو حزيناً ولا آسفاً. استخدم نفس مهارة التقطيع السريع وكانت سكينه تتحرك بمهارة المحاربين فتتهاوى القطع الصغيرة وتسقط مستسلمة على وعاء الستانلس النظيف. كان سريعاً وماهراً، وبلهجة سورية صرف قال لي: هذه آخر سندويشة شاورما، سأقفل المحل بعد خمس دقائق. كانت الشاورما لذيذة جداً، ألذ من شاورما أبو حاتم أو ربما كنت أنا جائعة أكثر من اللزوم.
(سورية)
يهزك الطرب عندما تعرف أن "اختراعاً" من هذا النوع أبدعته المخيلة السورية، خاصة بعد أن وجد له مكاناً في كتاب الأرقام القياسية الشهير، بوصفه أكبر قُطر، وأطول سيخ، فكائناً ما كان منشأ الشاورما، بمجرد اقترابك من واجهة محل في أي شارع من أي عاصمة يحييك معلم السيخ على طريقة قبضايات باب الحارة وكأنه ماركة مسجلة لا تطيب فيها الشاورما إلا من يد قبضاي من هذا النوع.
غيرت الثورة، في سورية، كل شيء، حتى ورقة العملة من فئة الألف خرجت متخلصة من وجه حافظ الأسد.. ولكن الشاورما؛ وعلى العكس من ذلك، أصبح طعمها ألذ، ومنظرها أجمل، وصارت أكثر جاذبية.
في شارع ركن الدين، الشارع الأكثر استقامة بين كل شوارع دمشق، كان محل "أبو حاتم" هو الأكثر شهرة في شمالي دمشق. يزهو السيخ المثالي على سفح جبل قاسيون تحده من الشرق "بَرْزة"، وتحيط به من الجنوب والغرب "الصالحية". لم يكن أبو حاتم بحاجة إلى كمية أضواء هائلة، فشهرته الجاذبة تجعل سيخ الشاورما الضخم يذوب "كالأيس كريما" قبل أن ينتصف الليل، ويمكن أن تجد قططُ الحي ما فيه الكفاية من اللحم ولا تعود بحاجة للتنقيب في حاويات الزبالة بحثاً عن البقايا، لأن فتات الشاورما متوفرة حول المحل، في دائرة نصف قطرها مائة متر، وهناك يتحلق الجائعون والمتسولون وكذلك العشاق.
يقال إن الحرب دفعت بمعلمي الشاورما للهجرة إلى الإمارات ومصر وتركيا، إنه نزيف "تقني" من نوع آخر. وما زال أبو حاتم يبيع الشاورما ويرفع سعره كما يرتفع سعر صرف الدولار، لم ينزل مستوى الشاورما حتى مع تغير نوعية الخبز، ولكن القطط التي ترتاد المحل أصيبت فجأة بصدمة، واقتصر عملها على الوقوف من بعيد وتسديد نظرات شفقة إلى مجموعة آكلي شاورما أبي حاتم الجدد.
كنت أتناولها وحدي وأُكثر الطلبات على أبو حاتم: "كتِّر مخلل، قلل توم، ما بدي ياها ناشفة". وكان لي رفيق طويل القامة يسير إلى جانبي ويلتصق بي أحياناً، وأسمح له أن يدس يده في جيبه ليخرج ولاعته ثم يشعل سيجارة، فأقول له: لا تدخن قبل أن تأكل.
فيرد وقد شجعته الكلمة على أن يقترب أكثر: سأدخن قبل وبعد الأكل..
الشاب الذي يبيع الشاورما خلف غرفتي المنزوية، ويقال له بالتركية (dönerci)، قال لي قبل يومين، بقلة اكتراث، إنه سيقفل المحل! رأيته يشعل سيجارة وراء أخرى، ويتسلى بطرد القطط الملحاحة، فنزلت ووقفت أمامه. لا يبدو حزيناً ولا آسفاً. استخدم نفس مهارة التقطيع السريع وكانت سكينه تتحرك بمهارة المحاربين فتتهاوى القطع الصغيرة وتسقط مستسلمة على وعاء الستانلس النظيف. كان سريعاً وماهراً، وبلهجة سورية صرف قال لي: هذه آخر سندويشة شاورما، سأقفل المحل بعد خمس دقائق. كانت الشاورما لذيذة جداً، ألذ من شاورما أبو حاتم أو ربما كنت أنا جائعة أكثر من اللزوم.
(سورية)