عون وجعجع.. هل كانت حرباً؟

17 يناير 2015

عون وجعجع معاً في مطار بيروت إلى الدوحة (مايو/2008/أ.ف.ب)

+ الخط -
أن تكون صبيّاً صغيراً في أتون حرب أهلية دامية، يعني أن الأفق الأكبر أمامك يتجلّى في سقفٍ تحتمي تحته، أو ملجأ آمن، ولو أن الملجأ كان ملجأً لزواحف وحشرات، جاورتنا في ليالي لبنان السوداء. كان كل الحلم يكمن في العيش يوماً آخر، أو أن نسعى، صباحاً، إلى لململة شظايا قذيفة لم تقتلنا، فقط لنُشبع "الأنا" الخاصة بنا تجاه أقراننا. كان ذلك في العام 1990، يوم انهار كل شيء في الجزء الشرقي من بيروت (المنطقة اليمينية من لبنان أيام الحرب الأهلية 1975 ـ 1990)، حين دفع الخلاف السياسي، اثنين من أبطال الحرب، إلى التطاحن في موقعة رعب عنيفة، لم يُستثنَ منها لا منطقة ولا حيّ ولا بيت. كانت حرباً بشعة. حين أقرأ عنها اليوم، لا أُصدّق أننا بقينا على قيد الحياة، بينما رحل غيرنا، لأن حظه كان أسوأ من حظنا. في حينه، كان "البطلان"، هما نفسيهما، اللذان باتا على مشارف تفاهم سياسي، قد يُبصر النور قبل نهاية يناير/ كانون الثاني الحالي: ميشال عون وسمير جعجع.
أذكر، شتاء يناير 1990. كان يوماً مشمساً، لكن الشمس لم تتمكن من إطاحة البرد. دخلت علينا إحدى المعلمات فجأة، وطلبت منّا مغادرة المدرسة فوراً، قبل انتهاء دوامنا. هاج التلاميذ، وكأن أمراً جللاً يحدث. صعدنا في باصات المدرسة، وعدنا إلى المنزل. على الطريق، شاهدتُ أرتالاً من الدبابات، منها ما هو تابع للجيش اللبناني، الذي كان بقيادة عون، ومنه ما كان تابعاً للقوات اللبنانية، بقيادة جعجع. وصلت إلى المنزل. كنت أتوقع أن يشعر أهلي بالمفاجأة، لكنهم كانوا ينتظروننا. بدوا سعداء، حين وصلنا أنا وإخوتي. لم أكن أدري ما الذي يحصل، قبل أن أفهم أن حرباً ما ستندلع. كنت أدرك هذا الشعور، فحرب سابقة كانت قد دارت رحاها في 1989، بين الجيشين اللبناني والسوري، لكنني لم أكن أعرف معنى مشاهدة ما أطلق عليه "اقتتال الإخوة"، إلا حين وقع.
كان كل شيء سريعاً. القصف. حجم الدمار. الموت المتنقل. صور عشرات الشبان المعلّقة على الجدران. الخوف الداخلي من مغبّة إبداء تأييدنا أياً من فريقي النزاع. لا مكان لبراءة الطفولة في عالم كهذا. الوحش أكبر من لعبة محطمة وعلم لبناني ممزّق وصليب مكسور وجرس كنيسة مهدّم. ليس سهلاً الاستيقاظ على أصوات القذائف ليلاً، ولا هيّناً أن تظنّ نفسك أقوى من الموت. أعلم تماماً ما يشعر به الأطفال، السوري والفلسطيني والعراقي، وغيرهم في أيامهم الحالكة.
لم ينتهِ هذا الزمن هناك، بل جرّ أجيالاً خلفه، عاشت في حقدٍ لم يَمُت وشغفِ ثأرٍ لا يرحم. كان غريباً أن أحداثاً عالمية وقعت، كما دارت السنوات 25 دورة، ولم يعرف لا عون ولا جعجع طريق الاتفاق. وغرق أنصارهما في حروب عبثيةٍ، وخلافات أقرب إلى نزاعات المراهقين. كان مرعباً رؤية مَن يُعتبرون "نخبة" المجتمع ينساقون إلى مثل تلك الحروب. فجأةً، توقف كل شيء. قرر عون وجعجع الاتفاق. لن يسألهما أحد عن ضربة السكين التي تعرّض لها أحد الطلاب، لخلاف مع رفيقه بسببهما، ولن يسألهما أحد "لمَ تأخرتما على الاتفاق حتى الآن؟". بالطبع، سينبري مَن يقول إن "مصلحة المسيحيين فوق كل اعتبار". تماماً كما كانت في حربهما في العام 1990، وكما كانت في الاشتباكات الطلابية في المدارس والجامعات، وفي الشوارع والملاهي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. هو حقد أعمى، كلّف الكثير من النواحي النفسية والاجتماعية لبيئة ديمغرافية محددة.
أما رفيقي، ابن جيلي، الذي كان يبلغ العاشرة، فقد ودّعته، في ذلك اليوم المشؤوم من يناير 1990، ولم أره مجدداً. علمت لاحقاً أن حظّه كان أسوأ من حظي.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".