عن نزق المثقف وأطروحة ساراماغو

08 يناير 2015
+ الخط -

إذا كان للثقافة تأثيرها على المجتمع بشكل متفاوت، فإن تأثيرها ليس أقل تفاوتاً على العقل العربي الذي فقد بعض مؤثراته التي أحاطت به طوال عقود الاستبداد، إلى أن نفد منها مكونها الأخلاقي في الربيع العربي، وجرّدها، فجأة، شعاراتها، وأدركت بعضها القطيعة النهائية مع مجتمعاتها. ومن الصعوبة النظر إلى حالة التجريد المستمرة لبعض الحوامل الثقافية العربية، والحصول على أخرى مختلفة عن الطروحات السائدة نفسها قبل ذلك، عند تحوّل المدلول "الثقافي" لدى بعض النُّخَب إلى مجرد ضرورة لغوية، نعثر عليها في إطلالات إعلامية، من دون معنى وغاية، ما لم تكن في مواجهةٍ مع الغطرسة، ولا تمس الحاضر والمستقبل، وتتخندق في الماضي.
يقول خوسيه ساراماغو، في روايته "العمى"، إن الضمير الأخلاقي الذي يهاجمه حمقى كثيرون، وينكره آخرون كثيرون، موجود، وطالما كان موجوداً، ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع، حيث لم تكن الروح أكثر من فرضية مشوّشة، فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي، أيضاً، والتبادل الجيني، انتهينا إلى تلوين ضميرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع، وكأن ذلك لم يكن كافياً، فحوّلنا أعيننا إلى مرايا داخلية، والنتيجة أنها، غالباً، تظهر من دون أن تعكس ما كنا نحاول إنكاره لفظياً".
يتأمل المرء ما كانت عليه أطروحات بعض "النخب" الثقافية، قبل اندلاع الربيع العربي، وما صاروا إليه من تناقض يفضح حقيقة الادعاء السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فهم غير قادرين على استيعاب ما يجري، وغير قادرين على هضم متغيّرات ركلت نتاجهم

جانباً، فبات غير مسموح أن تُجرى إسقاطات ما قدمته "نخب" المجتمعات على واقع الربيع العربي، فقد كان المقصود "غير ذلك" من وجهة نظر تبريرية عن تقاعس انحيازها الأخلاقي، بعيداً عن الأيديولوجيا، وانحرافها نحو الهزيمة، بصورة أو بأخرى، لأنها ربطت نفسها مع مصير الاستبداد من دون العباد، حلّت بدل طروحاتها سياسة التمييع والتعهير لقضايا البشر، ما أحدث صدمة نفسية لا تقل ضراوتها عن التي يرزح تحت وطأتها الإنسان العربي، بفعل الظلم التي بشّرت به  طروحات "نخب"، بأدواتها التثويرية والتنويرية، بأنه زائل لا محالة، وهو كذلك، ورفعت منسوب آماله وتطلعاته بمستقبل مشرق. لكن، حين شهد إشراقة ربيعه، انقلبت الصورة ووضعت شريطاً للتعمية على جراح ملتهبة في الجسد العربي، فبدلاً من تضميدها، ساد خطاب ديماغوجي شعاراتي، يتماهى مع طروحات نُظُم الاستبداد، وهو ما أضعف جل الادعاء بالميادين المختلفة.
المقارنة بين ضمير زائف وآخر ينكر، بانحرافه وتعميته عن واقع يرزح تحت بؤس التبجيل، "بمعرفة " منسوبة له، هو ما قصده ساراماغو في حديثه عن الضمير الأخلاقي المختفي بتلاوين الدم والدمع وآهات المعذبين. ولا تلغي حالة الإنكار وجود حجم النفاق المغلّف بموت عبثي للضمير والقفز المستمر عن الجثث، لا ينفيه قبر المثقف العاجي، ولا نزقه المصاب بتبجح واستعلاء، من ضوضاء جلبة الربيع العربي. ولن يفلح الإنكار بإعادة تنصيب مثقفين على منابر التسييد، لأن ما أحدثته سياط الشعارات عميقاً ومستعصياً على الالتئام، وباتت كرابيج "الجلد" التنويري تتهكّم على العقل العربي. أية ثقافة يريدها العربي؟ إنها في منظور بعضهم المتشرنق داخل نزقه المتنازع اتجاهات عدة، في جوهرها عدم الانحياز الأخلاقي "لمخاض الثورات" العربية، وخصوصا أنه نسب بعضها لنفسه، قبل بلوغ الثورات أنها من نتاج فكره التبشيري عن المعرفة المؤسسة لديمقراطية مستقبلية، ليكون واقع اليوم ليس المستقبل الذي يريده مثقفون ضمن مقاس محدد، تفصيلاً وحياكة، قد تكون عملية تشخيص الواقع وتحديد مفاهيم المثقف ودوره خطوة ليست مستحيلة، كونها مفتاحية في تناول دور المثقف الحقيقي، المتصل والملتصق بواقعه. ولأن الثورات كانت كاشفة وفاضحة لجدوى الادعاء الفارغ، فإن الانتماء العضوي للمثقف يشكل العماد الحقيقي للأخلاق والضمير، كونهما جزءاً تكاملياً لمضمار السياسة والاجتماع والاقتصاد والفن والثقافة، أعمدة ضرورية لتأسيس ديمقراطية حقيقية، تسهم في دفع الحياة إلى الأمام، لا أن تكون جزءاً من منظومة الاستبداد، المتلاشي شيئاً فشيئاً.
مع كل هذه التعمية المحيطة بالعقل العربي، ونزق يجرف مصداقية المثقف وهيبته ومؤلفاته، يلتقي العقل بنسيم نظيف وضمير مفقود، وصدق أصبح نادراً، نعثر عليه في العربي الجديد، المصرّ على نفض غبار التعمية، محتفظاً لنفسه بحق مقاومة الاستبداد وعزل شرنقة "المثقف".

 

 

AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.