النكبة الراهنة ومجتمع المنكوبين

15 مايو 2015

في ذكرى النكبة في غزة (13 مايو/2015/الأناضول)

+ الخط -
في الوقت الذي تخطو فيه النكبة الفلسطينية لإتمام عقدها السابع، تنعطف على مخاطر أكثر مشقة وعناء من التي استوطنت ذاكرة اللاجئين، عندما هجروا من ديارهم ومدنهم وقراهم، قبل 67 عاماً، في غمرة إحياء ذكرى النكبة يوماً يؤكد فيه الفلسطيني اللاجئ على تمسكه بحقوقه التاريخية، وبالتحرير والعودة وتقرير المصير، وحقه بتاريخه وتراثه في أرضه، تتواصل نكبته في مشهدها الأخير مع اندلاع الثورات العربية، قبل خمس سنوات، بفاصل هو الأشد قسوة من التي يحيي ذكراها اليوم، ومتفوقة على الخامس عشر من مايو/أيار عام 48، حين وجد اللاجئون، آنذاك، مجتمعات عربية محيطة احتضنتهم، ومكنتهم من الحفاظ على كينونتهم، وهويتهم التي صاغها فيما بعد المشردون من ديارهم، بنضال أفرز شكل الهوية المرتبط بالأرض والتاريخ والتراث وقوة الحق. في النكبة الراهنة، يلفظ المحيط العربي بمشرقه ومغربه، اللاجئين من مخيم اليرموك، وعواصم الشمال الغربي تَبسط سواحلها لهم. 
ليس سهلا الخوض في تفاصيل الوضع الفلسطيني، الناشئ عن نكبة مخيم اليرموك، بمعزل عن الظروف المحيطة، خصوصاً وأن أكثر من طرف على صلة مباشرة بالمخاطر التي أحاطت به، ومن ثم هددته، وقامت بتدمير مجتمع "المنكوبين" في مخيماتهم السورية، ولا نبالغ في القول إن الشعب الفلسطيني في مخيمات سورية يجد نفسه من ضحايا الكارثة السورية المستمرة، مما يزيد الأمور تعقيدا أن اللاجئ الفلسطيني وجد نفسه عارياً من كل مقومات الحياة، ومستهدفا في كل جوانب حياته، وحين نقترب من جوهر النكبة الراهنة يتضح أن مخطط تدميره يمضي ليشمل مختلف مناحي وجوده.
شكل فلسطينيو اللجوء والشتات، طوال تاريخ القضية الفلسطينية، العنوان الأساسي لاندلاع الثورة الفلسطينية وقيام منظمة التحرير وفصائلها المختلفة، واعتبرت المنظمة ممثلاً شرعيا وحيدا بناءً على ثلاثية التحرير والعودة وتقرير المصير، إلى أن بات المشكل لفسيفساء اللجوء والشتات أمام صورة مختلة، ومختلفة تماما عن التي كانت تتصدر حشودهم في المخيمات من اليرموك وحندرات والنيرب إلى العائدين في حمص، وحماه وخان دنون وجرمانا وخان الشيح، ودرعا، حين كانت تندلق أمامهم خطب التجييش والحماسة المتعلقة بإحياء النكبة، أو وداع قوافل الشهداء التي غصت بها مقبرتا اليرموك، فضلاً عن مناسبات عديدة حفل بها قاموس النضال الفلسطيني. في "النكبة الأولى"، سعى الفلسطيني اللاجئ من وطنه المغتصب ليحفظ كواشين الأرض، ومفاتيح الديار، خزن في ذاكرته كل شجرة وبيارة وتلة وبئر ماء، لغته المحفوظة لأعراسه وأحزانه، نقلها إلى مخيمه بعادات وتقاليد، ظلت مألوفة لهويته المتأصلة بوطنه، كردِّ فعل وجودي على اغتصاب وطنه، في نكبته اليرموكية مع المخيمات الأخرى، احترقت كلها مع ثوب فلسطيني، يحفظ رائحة عرق جدته. من مفارقة النكبة الأولى، أنها عنونت نفسها بما ينطبق مع واقع اللاجئين، في التركيز والاعتماد على الشعب الفلسطيني، لاستيلاد هوية تمثلهم بالمعنى السياسي، وتنادي بحقوقهم، وتعمل على خلق مقاومة في صفوفهم لمواجهة " العدو".
في المفارقة الثانية لنكبة اليرموك، تقف سلطة فلسطينية عارية تماماً أمام شعبها المنكوب في ثنائية التاريخ بين فاجعتي النكبة الأولى، من مخلفات الاغتصاب الإسرائيلي، والثانية التي أقصت الفلسطينيين عن نسيجهم الاجتماعي والوطني في عبارات "النأي التاريخي والضميري" عما حل بشعبها، رحلة الانكشاف التاريخي لمأزق النكبة في فصلها اليرموكي، بفعل عقلانية وواقعية مفرطة، تبرر كل حلقات الموت للاجئ غرقاً او قتلاً مستمراً وتهجيراَ، لا يمكن معه المقارنة بفصل النكبة الأولى قبل سبعة عقود.
بقدر ما تتكشف اللاعقلانية، التي وقع فيها الجانب الفلسطيني طوال الفترة التي سبقت النكبة الجديدة وتلتها، يستظهر الحصاد التدميري العقلاني لمجتمع اللاجئين من وطنهم، يقع الطرف الرسمي الفلسطيني في الحفرة العميقة نفسها، حين يصر على تلك الانتهازية القاتلة السرية والعلنية.
يقف الفلسطيني في المخيم أو منه، لا ليستذكر كيف سقطت صفد، وترشيحا، وبلد الشيخ، وإجزم واللد وسحماتا تحت حراب المحتل فقط، ولا ليتذكر علقم الخذلان العربي في جيشه "المنقذ"، بل أيضا كيف انفلت من طوق الإبادة والمحرقة التي تحيط به من كل جانب. مايو/أيار اليوم "تفوق" على مايو/أيار عام 48، شواهد القبور محطمة، مكتباتنا التي اتكأنا عليها يوماً في قصص غسان كنفاني، لنقرع جدران خزان نكبتنا، رجاله ليسوا تحت الشمس، يقضون تحت الجحيم، وأبو الخيزران يحتل المعابر والسواحل في طول البلاد وعرضها، وخيمة أم سعد بات بديلها قاع البحر، تلاشت واندثرت أدبيات التحليل التاريخي والمنهجي، لثقافة أصرت على البقاء في برج لا يرى كل هذا التحول العاصف في حياة المنكوبين، وحنظلة يدير ظهره شاهداً على مقصلة المخيم.
في ممارسات كهذه، تتبدد مفاهيم اللاجئ، والفصيل السياسي و" الثوري"، والسلطة الوطنية، والانتماء القومي والمحاكمة العقلانية، والهوية الوطنية والذاكرة التاريخية، ويسقط التصور التقديسي لحق الفلسطيني، إن هو غاب نهائيا بفعل موته ودماره، لأنه عنوان التحرر والانعتاق. ولعل النقطة الأساسية التي يبني عليها الفلسطيني بوحه هي أن مخاض النهوض بدأ، صحيح أن طريقه شاق ووعر، لكنه بدأ، لأنه سيرورة تاريخية، لن يغيب عن ذاكرة الفلسطيني، وهي سلاحه الأمضى ضد كل استبداد يمارس ضده، حتى لو لبس كل معاطف الوطنيات باهظة التصريح، ومارس من البكائيات ما يعتقد أنه ينجيه، وهو لم يستفد أصلاً من هذا الانتعاش في الشارع العربي الذي ظل ينتظره، ويبشر به منذ الخامس عشر من مايو/أيار عام 48.

AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.