كتب الاستاذ، أحمد أبا زيد، في موقع "ملحق جيل" العربي الجديد، مقالة بعنوان "عن ثوار قدماء"، نُشرت بتاريخ 7 يناير/ كانون الثاني 2016. المقالة تشبه في نمطها السيرة الذاتية، لكنها ليست سرداً لأحداث، وإنما دفاع عن خيارات شخصية بإعطائها أبعاداً تاريخية، لا بل كونية.
إنها برأي عرض للدرس الأعمق والأساسي الذي استخلصه الكاتب من دراما حياته وحياة أبيه ورفاقه من مهجّري ثورة الإخوان المسلمين السوريين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. هذا الدرس لخّصه الكاتب في آخر سطرين من المقالة: "إن الأكثر بؤساً بين خيارات ثوراتنا المستحيلة هو أن نكون ثواراً سابقين، وقد قررت، وكذلك آلاف من الثوار السوريين، مهما حصل لنا ألا نكون كذلك، لن نكون ثواراً قدماء"؛ آلاف من الثوار ولكن ليس كل الثوار وليس كل السوريين.
أعادت المقالة إلى ذهني تساؤلاً طالما حيرني، منذ بداية الثورة السورية، تساؤلاً جوهرياً ينقلنا من الفردي إلى العام: هل الثورات قرار إقصائي يفرضه فرد أو جماعة دون بقية أفراد المجتمع لأن الأخير وصل إلى استعصاء وطريق مسدود، أم أن الثورات عمليات تغيير تشاركية تفشل، إن أدت إلى تفكك عرى المجتمع نفسه؟ ثورة الإخوان المسلمين في الثمانينيات كانت من النوع الأول باعتقادي، وقد يشاركني الكاتب في هذا الرأي. لكن الثورة السورية الآن من النوع الثاني، أو هكذا يؤكد لنا الكاتب بإصرار. وهو مستعد أن يدفع حياته برهاناً على هذا الرأي، وهو ما يلخصه بتأكيده، أنه وكثيرين لن يخرجوا من الحلبة ثواراً قدماء مدحورين مشردين. لا أحد يريد إعادة الفشل، لكن من المهم أن نعرف، في حالة مثل المعضلة السورية، ما هو الفشل الذي لا نريد إعادة إنتاجه؟
مهجّروا الثمانينيات ليسوا كلهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فكثير منهم يساريون شاركوا في الجانب السياسي من الأحداث، أو نقابيون، أو متعاطفون مع أهداف الهبّة في تحقيق تغيير في السلطة الحاكمة، أو مجرد مسلمين متمسكين بدينهم ارتاب بهم النظام الحاكم، فدفع بهم إلى الهجرة "الاختيارية". هؤلاء المهجّرون يُعدّون بعشرات الآلاف، وأولادهم اليوم قد يصل تعدادهم إلى المائة ألف. أكثرهم في دول الخليج التي احتضنت أعداداً قبلهم من الإخوان المسلمين في الستينيات الهاربين من سلطة البعث في سورية أو بطش نظام عبدالناصر في مصر. وهناك كثيرون منهم يعيشون في ألمانيا وبريطانيا ودول غربية أخرى.
هذه الآلاف من الأبناء الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات انخرطوا بمثابرة منقطعة النظير في الثورة السورية التي بدأت في دمشق في 15 مارس/ آذار2011 وانطلقت بقوة في درعا في 18 مارس/ آذار. عمل هؤلاء الشباب بصمت في صفوف جماعات سياسية قديمة وجديدة (ليسوا كلهم كآبائهم أعضاءً في جماعة الإخوان) أو منظمات مجتمع مدني جديدة أو فصائل مقاتلة من مختلف التوجهات العقدية. كثير منهم لم يتخذوا لأنفسهم هوية معلنة وواضحة تعبر عن انتمائهم إلى جيل الثمانينيات؛ لكن أسلوب عملهم وفعالياتهم وأهدافهم المستنتجة من أفعالهم تشي بوحدة ما يصعب وصفها؛ إنها على الأقل وحدة في السردية، ووحدة في التفاني، ووحدة في التحليل، ووحدة في الرؤية؛ وليست بالضرورة وحدة في المؤسسة الجامعة أو الشبكة الجامعة.
منذ بداية الثورة، لم يتحدث أحد عن دور هؤلاء الأبناء (هذا هو الاسم الذي سأستعمله في هذه المقالة) في هذه الثورة، عن أثرهم في توجهاتها واستمرارها ومنعطفاتها، في حياتها اليومية وصناعة سردياتها وتأمين حاجاتها. إنهم سوريون، يحلمون بالعودة إلى وطن آبائهم، وينتمون إلى هذا الوطن على الرغم من أنهم لم يعيشوا فيه إلا في رحلات زيارة الأقارب. لكن ما يجمعهم أكثر هو إحساس عميق بمظلومية عبّر عن مكوناتها الكاتب، أحمد أبا زيد، بكلمات مؤثرة، "الهزيمة والموت والمنافي وضياع الهوية والإذلال". لكن ما أكثر المظلوميات في سورية، ما أكثرها! وتشمل كل مكونات الشعب السوري، وفرقه السياسية المختلفة، ومن ضمنهم الشيوعيون جماعة المكتب السياسي وجماعة حزب العمل الشيوعي والناصريون وبعثيوا 23 فبراير/ شباط وكذلك الفلسطينيون.
هذا بالإضافة إلى مئات آلاف المغتربين في دول الخليج وعشرات الآلاف في الغرب من الشباب الذين فقدوا الأمل في أي مستقبل لهم في سورية؛ كلهم لديهم مظلوميات مدعمة بسرديات مأساوية ووقائع حقيقية أو متخيلة و"هزيمة وضياع وإذلال".
كلهم يملكون أبطالاً سقطوا، وأحلاماً ضائعة، وكراهية عميقة، وإحساساً بالظلم والذل، وجلسات ذكريات مؤلمة، وتوقاً إلى ماض بريء ومكان آمن "كالأم" يسمونه الوطن. وأضافت الثورة إلى هذه المظلوميات مئات أخريات بالإضافة إلى مظلومية غير متوقعة هي مظلومية "أهل السنة".
ولا بد هنا من إضافة مظلومية الشيعة في سورية (من أهالي الفوعة وجوارها) والذين لا يزيد عددهم عن بضع عشرات من الآلاف والذين يرون الحرب اليوم والحصار المفروض عليهم من منظار مظلومية تاريخية، أيضاً، بغض النظر عن كيف يراه خصومهم. ولا ننسى، ونخبر من لا يعرف، أن العلويين، هؤلاء المتهمين بدعم النظام والقتال في صفوفه أو أولئك المتفرجين الصامتين، لهم أيضاً مظلومية.
منذ بداية الثورة، لم يعبّر أي من هؤلاء عن مظلوميته بشكل واضح وصريح، ولم يدخل أصحاب أيّ مظلومية في حوار جاد مع أصحاب المظلوميات الأخرى. لكن هذا الحوار، أو الصراع، كان واضحاً في كل الأفعال وردود الأفعال، في كل المجموعات والمؤسسات، في كل المعارك السياسية والأيديولوجية والإعلامية والعسكرية. كلٌ يعمل بجد لبناء وطن على مقاسه يضمن فيه أن مظلوميته لن تحدث مرة أخرى؛ أو كما يقول اليهود، اليوم، بعد المحرقة "أبداً لن تحدث مرة أخرى"؛ أو كما قال الكاتب أبا زيد "لن نكون ثواراً قدماء".
الكل يُقسم أنه سيموت دون هدفه إذا اقتضى الأمر. لا أحد يتكلم عن الحياة، عن بناء وطن صغير يتسع إلى هذا الكم الهائل من المظلوميات المتناقضة والتي ترى العالم بنفس الثنائية: نحن المظلومون والآخرون الظالمون. لن أتحدث هنا عن كل هذه المظلوميات، فهذا حوار طويل لا يراه أحدٌ ضرورةً بعد.
سأعلّق فقط على مقالة الأستاذ، أبا زيد، (سأسميه الكاتب فيما يلي) والمظلومية التي يمثلها، وأعني مظلومية الأبناء، من خلال معالجة نفس الرموز التي استخدمها الكاتب، لكن بطريقة أخرى من أجل إعطائها معاني أخرى. وكلي أمل أن يبدأ الناس الكلام والحوار، وأن يتوقفوا ولو للحظات عن ابتغاء الموت لأنفسهم وللآخرين من أعدائهم الحقيقيين والمتخيلين.
بدأ الكاتب مقالته بحكاية الفيلم الألماني الشهير "وداعاً لينين"، شرح بعدها فهمه الخاص لهذه الحكاية. شاءت الأقدار أن أشاهد هذا الفيلم للمرة الأولى عام 2008 في ألمانيا، في مدينة هامبورغ، حيث عُرض على شاشة كبيرة في ساحة المدينة. كان الجو صيفياً لذيذاً تشوبه رائحة المأكولات المحلية والآيس كريم بنكهة التفاح الأخضر الألمانية الشعبية وردود أفعال المشاهدين (الألمان الغربيين) المستلقين على بُسطهم في مدينة غنية عريقة بتاريخها التجاري منذ العصور الوسطى. وكأي نص مكتوب أو مسموع أو مشاهَد، فإن للفيلم آلاف التفسيرات، كل منها يعيش في سياق المُشاهد وليس في سياق المؤلف أو المخرج. إننا نتقمص شخصيات الحكاية ونجعل منها حكايتنا، لكننا نعرضها على أنها الحكاية الأصل أو الحكاية الوحيدة المضمَرة في قلب الكاتب. ومثل الكاتب أبا زيد، كان لي فهمي الخاص للفيلم ضمن سياقي الخاص.
غرفة الأم في الفيلم أثناء نقاهتها من الغيبوبة، والتي حولها الابن أليكس (دائماً الأبناء) إلى قطعة من الماضي، تصبح لأبا زيد "طفولتنا البعيدة، ووطننا الضائع، ولكنها اختراعنا الهشّ لحماية الأم من الواقع". وكما يحن الشاعر محمود درويش إلى أمه وقهوتها في سجنه/غربته، يحن الكاتب إلى طفولته البعيدة ووطنه الضائع، فتصبح الأم عنوان هذه الطفولة وهذا الوطن. رمزية الأم كوطن شائعة بين الأدباء العرب، فالتقاليد العربية، والإسلامية خاصة، تعزل المرأة وتجبرها على التماهي مع البيت والأولاد فتصبح لهؤلاء الأولاد ذاتهم الداخلية وضميرهم المستتر؛ خاصة الأولاد الذكور الذين يعانون في أول بلوغهم من قطيعة مفروضة مع عالم الأم الدافئ وعالم الطفولة البريء ليدخلوا عالم الرجال، عالم التنافس والأقنعة وإثبات الذات والعنف.
اعتقد الكاتب، أن الابن أليكس اخترع الغرفة، أي صورة العالم المفقود، لحماية الأم من الواقع. لم يرَ الكاتب من الفيلم إلا قصيدة "أمي" لمحمود درويش، لم يرَ إلا طفولته هو في الوطن المفقود، إلا الأم العربية، الضمير، البراءة، الهشاشة التي نحميها بالأقنعة الرجولية. بالنسبة لي، رأيت في هذه الغرفة وفي الأم المتوهِمة آخِر احتضار لماضٍ محتّم عليه أن يموت. ما فعله الابن أليكس بالنسبة لي، كان جنازة طويلة لماض يمكن أن يحنّ إليه يوماً كما يحن إلى أمه، لكنه ماض يموت، لا بل ماض يجب أن يموت ومن الأفضل أن يموت بكرامة. الأم ماتت في النهاية؛ قبلت بالواقع لأنها بَنته هي نفسها، وكانت تعرف في صميمها أنها تعيش وهماً؛ وعندما قبلت به تلاشت معه. إنها أم خَلقت حلماً أيديولوجياً لأن الزوج تركها ليبدأ حياة أخرى أفضل (قد يكون هذا الزوج وليس الأم الذي اختار الغرب هو رمز الوطن هنا أو رمز الطريق الصحيح). هذا الزوج تركها ليس كما يترك المعيل زوجة ضعيفة في مجتمعنا، وإنما لأنها لم تستطع مواجهة الحياة الجديدة فوقعت في حب السجّان القاسي كما في متلازمة ستوكهولم، حيث تقع الضحية في حب السجّان الجلاد. هذه الأم ليست أشجار الليمون وقهوة الصباح والطفولة البريئة، إنها هذا الجزأ من ألمانيا الخائفة الضعيفة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بأولاد دون معيل كآلاف الأمهات الألمانيات فاحتمت بظل رجل معيل رمزي هو الديكتاتور. قد يكون هذا المعيل الديكتاتور السجّان دافئاً لأنه من عالم الذكريات، لكنه محتّم عليه الموت.
لا يمكن لكاتب أو رجل عربي أن يحكم بالموت على الأم في حكايته، لكن الحكاية الألمانية قتلت الأم بحنان لأنها تعيش في عالم الحلم. إنها شبح أم، كانت في غيبوبة ثم استفاقت لتعترف بالواقع ولتموت بعد ذلك. بالنسبة لي، هذه الأم ليست هي الأم الغائبة، أو الضمير الغائب الذي يرزح "تحت بريق الرأسمالية الذي غطى غبار الشرق، بينما كانت الأم في الغياب".
لقد فهم الكاتب الفيلم برموز ثقافته العربية الإسلامية وليس برموز الثقافة الألمانية، لقد أسقط شرقنا على ألمانيا الشرقية التي لا يجمعها بنا إلا كلمة شرقية. ألمانيا الشرقية وفي مسافة جملة أصبحت عند الكاتب رمزاً "للشرق" الذي يرزح تحت "بريق الرأسمالية"، ليس في غياب الأم -الوطن- الضائع، وإنما بينما "الأم في الغياب" القسري. الأم في الفيلم لم تكن مغيبة (في الغياب) كمظلوم مستلب وإنما غائبة في غيبوبة اختيارية لأنها رفضت مواجهة الحقيقة، وقد اعترفت هي بذلك لاحقاً ثم تلاشت. إنها الإنكار الذي يتلاشى مع الاعتراف، وليست الضمير الحي الذي يرزح تحت وطأة الظلم.
بالنسبة للكاتب، غرفة الأم، العالم الصغير الوهمي، موجودة "لحماية هشاشتها، لحماية المثال من التاريخ، ولحمايتنا من الراهن المعولم بالزمن الكوني الغني، بعدما كان لنا زمننا الفقير والصغير، ولكنه زمننا نحن". وهنا نقابل إسقاطاً آخر لعالم الكاتب وسياقه على حكاية الفيلم: الأم، الوطن، المثال، الحلم الهش الذي يحتاج إلى حماية، ليست فقط مكاناً جغرافياً بل هي فضاء زمني معين، زمان "كان"، زمان "فقير صغير لنا نحن فقط" يقضي عليه التاريخ الحقيقي، تاريخ الملوك الطغاة؛ هذا التاريخ الغول الذي أنتج اليوم "الراهن المعولم"، الغني، الجذاب بأضوائه وإعلاناته وآلاته، لكن البائس كبؤس الوجبات الأميركية السريعة وإعلانات الكوكا كولا. الزمن الراهن، بالنسبة للكاتب، زمان مادي، حقيقي، لأنه مادي، لكنه غير مثالي.
إنه زمان الاستهلاك الذي لا يدوم إلا فترة الاستهلاك. إنه زمان قاسٍ يجعل المثال الغائب، الزمن الماضي، "بلا قيمة، ليس مسموحاً لهذا الماضي أن يورثنا غير الحنين". بقفزة استنتاجية أعتقدها سهلة، يمكن أن نقول، إن الكاتب يعتقد أن البقاء الأزلي هو للزمن المثال، الخارج عن التاريخ. ومثل كل الأيديولوجيات الإسلامية السياسية الحديثة فإن الكاتب لا يفلت من قبضة "الزمن الضائع"، الزمن خارج الزمن، زمن النبوة والصحابة، زمن المثال الذي قضى عليه "التاريخ" الحقيقي، تاريخ الحجاج وعبد الملك وغيرهم من الطغاة الذين غطوا هذا الماضي ولم يسمحوا له أن "يورثنا إلا الحنين". أو لنقل إنه زمن غير عادي حجبه تاريخ الطغاة، لكنه يعود في صحوات (من الغيبوبة الطويلة) مثل صحوة الحسين وابن الزبير وابن الأشعث؛ ثم بقفزة أخرى، صحوة الثورة السورية الآن. الزمن دائري بالنسبة للكاتب، يعيد نفسه بأشكال مختلفة لكنها كلها نسخ لحقيقة أزلية واحدة هي صراع المثال مع الطاغية.
وكما يحارب الشيعة شخصية "السفياني" في كل العصور كالشيطان المتجدد انتهاءً بمعركة صاحب ولاية الفقيه المطالب بثارات الحسين على أرض سورية، يحارب "أهل السنة" ممثَلين بسعيد بن جبير وابن الزبير وغيرهم شخصية الطاغية "الحجاج" في كل العصور انتهاءً بمعركة الجهاديين اليوم، "ملحمة الملاحم"، على "أرض المحشر" في سورية.
هذه المعركة النهائية بين الحق والباطل ستُريح البطل المتناسخ عن شخصية سعيد بن جبير من "عبء التنكر للتحولات الرأسمالية الجديدة والانشغال بصناعة التراث". هذه الراحة هي الحقيقة التي لم تفهمها حبيبة أليكس، حسب الكاتب، فقد "استغرقها الترف الجميل لزمن الرأسمالية الجديد … بتجدده وتنوعه اللامنتهي". لكن هذا "التجدد والتنوع"، بالنسبة للكاتب، ليسا إلا سمة التاريخ الحقيقي الراهن المبهِر الخادِع المتجسد بالرأسمالية الاستهلاكية، زمن القشور والتقلب الذي يغطي الجوهر الأزلي، ذلك المثال الضائع الذي لا يتغير. لم ينكر الكاتب أنه كان في زمن ماضٍ يعيش "بين كتب التراث"، وأنه أراد أن يكتب قصة أو قصيدة متخيلة "بين عامر الشعبي وأحد شباب الثورة المخذولين" (أي ثورة ابن الأشعث). من هو عامر الشعبي؟ عدا عن كونه مصدر عدد كبير من الأحاديث النبوية، إنه بتعريف الكاتب أحد "رؤوس ثورة القراء التائبين" (وأجد في تعبير التائبين بعض السخرية). إنه أحد رفاق سعيد بن جبير الذي استشهد بينما بقوا أحياء؛ أحد "التائبين" عن الثورة على الطاغية والمعترفين، من أجل الحياة، بأنهم كفروا بخروجهم على الحاكم. إنه أحد من "أعلنوا توبتهم من حماس المعركة وعادوا لطمأنينة المساجد".
كيف تتحول طمأنينة المساجد إلى شعار للخنوع؟ لعله يعني "مساجد الصوفية" الذين يتهمهم السلفيون بالتخاذل والقعود عن الواجب الأكبر، أي الجهاد ضد الحاكم الظالم. الشباب المخذولون في القصة المتخيَلة يسائلون الشيخ "التائب" بما يشبه المحاكمة ويسألونه "عن فتاوى القتال المنسية، وغضبة الثأر المطفأة، وحلم الانتقام من ظلم الطاغية". تقف إلى أذهاننا مباشرة مصطلحات "الفريضة السادسة"، "الفريضة المنسية" كمعانٍ محتملة لـ "فتاوى القتال المنسية". ما يريده الشباب الثائرون الذين "خذلهم الشيخ" وعنه يسائلون الشيخ، هو "الثأر" و"الانتقام" وليس "ثورة حرية وكرامة".
لا أنكر على الكاتب ثورته اليوم، ولا أنكر أننا جميعاً أردنا الانتقام في يوم من أيام الثورة وقبلها؛ لكن أتمنى اليوم لو نتكلم عن حرية انعتاق الإنسان من ظلم الدولة الديكتاتورية، وعن رد كرامة المواطن المقهور بالرّشى والقمع ونقص الفرص والفقر، أكثر مما نتكلم عن ثأر المهاجر المذلول، عن ثأر الآباء الذي ورثه الأبناء، عن مظلوميته محددة لا تبني وطناً وإنما تعلن حرباً لا نهاية لها. أفهم تماماً مظلومية الذين عاشوا "الهزيمة والموت والمنافي وضياع الهوية والإذلال" لأني عشتها كآلاف من السوريين، لكني أيضاً، أفهم أن حرب المظلوميات المتناقضة لا تبني وطناً بل تدمره. الحرب في سورية اليوم حرب مظلوميات، بين مظلومين وظالمين، لا يمكن أن تنتهي إلا بغلبة إحدى الفرق على الأخريات وإعلاء مظلومية الغالب فوق كل السرديات الأخرى باعتبارها زائفة تحصَّن وراءها الظالمون. لكن الحرب باعتقادي ستفقد سبب وجودها إذا تحولت إلى جهد جمعي تشاركي ضد منظومة الظلم وليس ضد ظالمين محددين من أجل إنتاج منظومة عدالة وحرية وكرامة، لا منتصرين منتقمين.
تعلمنا في هذه الثورة بشاعة التجبر وعرفنا قساوة مصادرة مشاعر الآخرين وغضبهم ومظلوميتهم مهما كانت تافهة بالنسبة لنا. لا أريد أن أصادر مظلومية أحد، وأتمنى لو يصرخوا ليل نهار بما في قلوبهم من حزن وغضب ليُسمعوا الآخرين. لكني أدعو الكاتب إلى أن يستمع إلى الطيف الواسع للمظلوميات السورية وأن يتصور، ولو للحظة، أن غضب الإنسان هو نفسه مهما اختلفت الحكاية، وأن يعي أن الحكاية، أية حكاية، ليست إلا نوعاً من "صنع التراث"، وأن إرث الآباء يجب أن يموت معهم تماماً كما في الفيلم. إن الصرخة التي أطلقها التونسي، "الذي قرر عنّا أننا هرمنا" باعتقاد الكاتب (إذ لا يهرم الثائر المجاهد)، قد لا تكون صرخة متقاعس عن الجهاد الأزلي، وإنما صرخة من سئم صنع التراث كما فهمه إريك هوبزباوم (الذي أشار إليه الكاتب مبيناً بأمانة علمية اختلاف فهمه للتراث عن المعنى الذي استخدمه الكاتب)، تراث الانتقام والثأر. قلما يجد المظلوم الثائر ظالمه وسجانه، ذلك الشخص الذي أهانه وآذاه ليمارس انتقاماً شخصياً يشفي غليله. إن نضج أية ثورة يكون حين تتخلص من غضبة الثأر وتعي أن الظالم ليس شخصاً وإنما منظومة سمحت لأناس عاديين أن يصبحوا سجانين ظالمين.
أتمنى أن لا يصبح الكاتب وآلاف من الثوار مثله "من قدماء الثوار". لكني أتمنى، أيضاً، أن يكون لديهم مشروع لما بعد الغلبة وإشباع رغبة الانتقام. أتمنى لو ينظرون حولهم ويتعرّفون على الحرية التي يحلم السوريون بها وعلى الكرامة التي يطالبون بها. إنها أكبر بكثير من انتقام أو حكاية مظلومية، إنها حياة. اسمعوا قصصهم وحكاياتهم، إنها ليست حكايات سعيد بن جبير وعبدالله بن الزبير والحجاج وعبد الملك. الآلاف الذين صارعوا الأمواج ليصلوا إلى ألمانيا والسويد ليسوا متخاذلين، إنهم أناس يريدون الحياة كما وهبها لهم الله بمباهجها واستهلاكها، ولا يرون ضيراً في التنعم "بطمأنينة المساجد والترف الجميل لزمن الرأسمالية".
(سورية)
إنها برأي عرض للدرس الأعمق والأساسي الذي استخلصه الكاتب من دراما حياته وحياة أبيه ورفاقه من مهجّري ثورة الإخوان المسلمين السوريين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. هذا الدرس لخّصه الكاتب في آخر سطرين من المقالة: "إن الأكثر بؤساً بين خيارات ثوراتنا المستحيلة هو أن نكون ثواراً سابقين، وقد قررت، وكذلك آلاف من الثوار السوريين، مهما حصل لنا ألا نكون كذلك، لن نكون ثواراً قدماء"؛ آلاف من الثوار ولكن ليس كل الثوار وليس كل السوريين.
أعادت المقالة إلى ذهني تساؤلاً طالما حيرني، منذ بداية الثورة السورية، تساؤلاً جوهرياً ينقلنا من الفردي إلى العام: هل الثورات قرار إقصائي يفرضه فرد أو جماعة دون بقية أفراد المجتمع لأن الأخير وصل إلى استعصاء وطريق مسدود، أم أن الثورات عمليات تغيير تشاركية تفشل، إن أدت إلى تفكك عرى المجتمع نفسه؟ ثورة الإخوان المسلمين في الثمانينيات كانت من النوع الأول باعتقادي، وقد يشاركني الكاتب في هذا الرأي. لكن الثورة السورية الآن من النوع الثاني، أو هكذا يؤكد لنا الكاتب بإصرار. وهو مستعد أن يدفع حياته برهاناً على هذا الرأي، وهو ما يلخصه بتأكيده، أنه وكثيرين لن يخرجوا من الحلبة ثواراً قدماء مدحورين مشردين. لا أحد يريد إعادة الفشل، لكن من المهم أن نعرف، في حالة مثل المعضلة السورية، ما هو الفشل الذي لا نريد إعادة إنتاجه؟
مهجّروا الثمانينيات ليسوا كلهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فكثير منهم يساريون شاركوا في الجانب السياسي من الأحداث، أو نقابيون، أو متعاطفون مع أهداف الهبّة في تحقيق تغيير في السلطة الحاكمة، أو مجرد مسلمين متمسكين بدينهم ارتاب بهم النظام الحاكم، فدفع بهم إلى الهجرة "الاختيارية". هؤلاء المهجّرون يُعدّون بعشرات الآلاف، وأولادهم اليوم قد يصل تعدادهم إلى المائة ألف. أكثرهم في دول الخليج التي احتضنت أعداداً قبلهم من الإخوان المسلمين في الستينيات الهاربين من سلطة البعث في سورية أو بطش نظام عبدالناصر في مصر. وهناك كثيرون منهم يعيشون في ألمانيا وبريطانيا ودول غربية أخرى.
هذه الآلاف من الأبناء الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات انخرطوا بمثابرة منقطعة النظير في الثورة السورية التي بدأت في دمشق في 15 مارس/ آذار2011 وانطلقت بقوة في درعا في 18 مارس/ آذار. عمل هؤلاء الشباب بصمت في صفوف جماعات سياسية قديمة وجديدة (ليسوا كلهم كآبائهم أعضاءً في جماعة الإخوان) أو منظمات مجتمع مدني جديدة أو فصائل مقاتلة من مختلف التوجهات العقدية. كثير منهم لم يتخذوا لأنفسهم هوية معلنة وواضحة تعبر عن انتمائهم إلى جيل الثمانينيات؛ لكن أسلوب عملهم وفعالياتهم وأهدافهم المستنتجة من أفعالهم تشي بوحدة ما يصعب وصفها؛ إنها على الأقل وحدة في السردية، ووحدة في التفاني، ووحدة في التحليل، ووحدة في الرؤية؛ وليست بالضرورة وحدة في المؤسسة الجامعة أو الشبكة الجامعة.
منذ بداية الثورة، لم يتحدث أحد عن دور هؤلاء الأبناء (هذا هو الاسم الذي سأستعمله في هذه المقالة) في هذه الثورة، عن أثرهم في توجهاتها واستمرارها ومنعطفاتها، في حياتها اليومية وصناعة سردياتها وتأمين حاجاتها. إنهم سوريون، يحلمون بالعودة إلى وطن آبائهم، وينتمون إلى هذا الوطن على الرغم من أنهم لم يعيشوا فيه إلا في رحلات زيارة الأقارب. لكن ما يجمعهم أكثر هو إحساس عميق بمظلومية عبّر عن مكوناتها الكاتب، أحمد أبا زيد، بكلمات مؤثرة، "الهزيمة والموت والمنافي وضياع الهوية والإذلال". لكن ما أكثر المظلوميات في سورية، ما أكثرها! وتشمل كل مكونات الشعب السوري، وفرقه السياسية المختلفة، ومن ضمنهم الشيوعيون جماعة المكتب السياسي وجماعة حزب العمل الشيوعي والناصريون وبعثيوا 23 فبراير/ شباط وكذلك الفلسطينيون.
هذا بالإضافة إلى مئات آلاف المغتربين في دول الخليج وعشرات الآلاف في الغرب من الشباب الذين فقدوا الأمل في أي مستقبل لهم في سورية؛ كلهم لديهم مظلوميات مدعمة بسرديات مأساوية ووقائع حقيقية أو متخيلة و"هزيمة وضياع وإذلال".
كلهم يملكون أبطالاً سقطوا، وأحلاماً ضائعة، وكراهية عميقة، وإحساساً بالظلم والذل، وجلسات ذكريات مؤلمة، وتوقاً إلى ماض بريء ومكان آمن "كالأم" يسمونه الوطن. وأضافت الثورة إلى هذه المظلوميات مئات أخريات بالإضافة إلى مظلومية غير متوقعة هي مظلومية "أهل السنة".
ولا بد هنا من إضافة مظلومية الشيعة في سورية (من أهالي الفوعة وجوارها) والذين لا يزيد عددهم عن بضع عشرات من الآلاف والذين يرون الحرب اليوم والحصار المفروض عليهم من منظار مظلومية تاريخية، أيضاً، بغض النظر عن كيف يراه خصومهم. ولا ننسى، ونخبر من لا يعرف، أن العلويين، هؤلاء المتهمين بدعم النظام والقتال في صفوفه أو أولئك المتفرجين الصامتين، لهم أيضاً مظلومية.
منذ بداية الثورة، لم يعبّر أي من هؤلاء عن مظلوميته بشكل واضح وصريح، ولم يدخل أصحاب أيّ مظلومية في حوار جاد مع أصحاب المظلوميات الأخرى. لكن هذا الحوار، أو الصراع، كان واضحاً في كل الأفعال وردود الأفعال، في كل المجموعات والمؤسسات، في كل المعارك السياسية والأيديولوجية والإعلامية والعسكرية. كلٌ يعمل بجد لبناء وطن على مقاسه يضمن فيه أن مظلوميته لن تحدث مرة أخرى؛ أو كما يقول اليهود، اليوم، بعد المحرقة "أبداً لن تحدث مرة أخرى"؛ أو كما قال الكاتب أبا زيد "لن نكون ثواراً قدماء".
الكل يُقسم أنه سيموت دون هدفه إذا اقتضى الأمر. لا أحد يتكلم عن الحياة، عن بناء وطن صغير يتسع إلى هذا الكم الهائل من المظلوميات المتناقضة والتي ترى العالم بنفس الثنائية: نحن المظلومون والآخرون الظالمون. لن أتحدث هنا عن كل هذه المظلوميات، فهذا حوار طويل لا يراه أحدٌ ضرورةً بعد.
سأعلّق فقط على مقالة الأستاذ، أبا زيد، (سأسميه الكاتب فيما يلي) والمظلومية التي يمثلها، وأعني مظلومية الأبناء، من خلال معالجة نفس الرموز التي استخدمها الكاتب، لكن بطريقة أخرى من أجل إعطائها معاني أخرى. وكلي أمل أن يبدأ الناس الكلام والحوار، وأن يتوقفوا ولو للحظات عن ابتغاء الموت لأنفسهم وللآخرين من أعدائهم الحقيقيين والمتخيلين.
بدأ الكاتب مقالته بحكاية الفيلم الألماني الشهير "وداعاً لينين"، شرح بعدها فهمه الخاص لهذه الحكاية. شاءت الأقدار أن أشاهد هذا الفيلم للمرة الأولى عام 2008 في ألمانيا، في مدينة هامبورغ، حيث عُرض على شاشة كبيرة في ساحة المدينة. كان الجو صيفياً لذيذاً تشوبه رائحة المأكولات المحلية والآيس كريم بنكهة التفاح الأخضر الألمانية الشعبية وردود أفعال المشاهدين (الألمان الغربيين) المستلقين على بُسطهم في مدينة غنية عريقة بتاريخها التجاري منذ العصور الوسطى. وكأي نص مكتوب أو مسموع أو مشاهَد، فإن للفيلم آلاف التفسيرات، كل منها يعيش في سياق المُشاهد وليس في سياق المؤلف أو المخرج. إننا نتقمص شخصيات الحكاية ونجعل منها حكايتنا، لكننا نعرضها على أنها الحكاية الأصل أو الحكاية الوحيدة المضمَرة في قلب الكاتب. ومثل الكاتب أبا زيد، كان لي فهمي الخاص للفيلم ضمن سياقي الخاص.
غرفة الأم في الفيلم أثناء نقاهتها من الغيبوبة، والتي حولها الابن أليكس (دائماً الأبناء) إلى قطعة من الماضي، تصبح لأبا زيد "طفولتنا البعيدة، ووطننا الضائع، ولكنها اختراعنا الهشّ لحماية الأم من الواقع". وكما يحن الشاعر محمود درويش إلى أمه وقهوتها في سجنه/غربته، يحن الكاتب إلى طفولته البعيدة ووطنه الضائع، فتصبح الأم عنوان هذه الطفولة وهذا الوطن. رمزية الأم كوطن شائعة بين الأدباء العرب، فالتقاليد العربية، والإسلامية خاصة، تعزل المرأة وتجبرها على التماهي مع البيت والأولاد فتصبح لهؤلاء الأولاد ذاتهم الداخلية وضميرهم المستتر؛ خاصة الأولاد الذكور الذين يعانون في أول بلوغهم من قطيعة مفروضة مع عالم الأم الدافئ وعالم الطفولة البريء ليدخلوا عالم الرجال، عالم التنافس والأقنعة وإثبات الذات والعنف.
اعتقد الكاتب، أن الابن أليكس اخترع الغرفة، أي صورة العالم المفقود، لحماية الأم من الواقع. لم يرَ الكاتب من الفيلم إلا قصيدة "أمي" لمحمود درويش، لم يرَ إلا طفولته هو في الوطن المفقود، إلا الأم العربية، الضمير، البراءة، الهشاشة التي نحميها بالأقنعة الرجولية. بالنسبة لي، رأيت في هذه الغرفة وفي الأم المتوهِمة آخِر احتضار لماضٍ محتّم عليه أن يموت. ما فعله الابن أليكس بالنسبة لي، كان جنازة طويلة لماض يمكن أن يحنّ إليه يوماً كما يحن إلى أمه، لكنه ماض يموت، لا بل ماض يجب أن يموت ومن الأفضل أن يموت بكرامة. الأم ماتت في النهاية؛ قبلت بالواقع لأنها بَنته هي نفسها، وكانت تعرف في صميمها أنها تعيش وهماً؛ وعندما قبلت به تلاشت معه. إنها أم خَلقت حلماً أيديولوجياً لأن الزوج تركها ليبدأ حياة أخرى أفضل (قد يكون هذا الزوج وليس الأم الذي اختار الغرب هو رمز الوطن هنا أو رمز الطريق الصحيح). هذا الزوج تركها ليس كما يترك المعيل زوجة ضعيفة في مجتمعنا، وإنما لأنها لم تستطع مواجهة الحياة الجديدة فوقعت في حب السجّان القاسي كما في متلازمة ستوكهولم، حيث تقع الضحية في حب السجّان الجلاد. هذه الأم ليست أشجار الليمون وقهوة الصباح والطفولة البريئة، إنها هذا الجزأ من ألمانيا الخائفة الضعيفة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بأولاد دون معيل كآلاف الأمهات الألمانيات فاحتمت بظل رجل معيل رمزي هو الديكتاتور. قد يكون هذا المعيل الديكتاتور السجّان دافئاً لأنه من عالم الذكريات، لكنه محتّم عليه الموت.
لا يمكن لكاتب أو رجل عربي أن يحكم بالموت على الأم في حكايته، لكن الحكاية الألمانية قتلت الأم بحنان لأنها تعيش في عالم الحلم. إنها شبح أم، كانت في غيبوبة ثم استفاقت لتعترف بالواقع ولتموت بعد ذلك. بالنسبة لي، هذه الأم ليست هي الأم الغائبة، أو الضمير الغائب الذي يرزح "تحت بريق الرأسمالية الذي غطى غبار الشرق، بينما كانت الأم في الغياب".
لقد فهم الكاتب الفيلم برموز ثقافته العربية الإسلامية وليس برموز الثقافة الألمانية، لقد أسقط شرقنا على ألمانيا الشرقية التي لا يجمعها بنا إلا كلمة شرقية. ألمانيا الشرقية وفي مسافة جملة أصبحت عند الكاتب رمزاً "للشرق" الذي يرزح تحت "بريق الرأسمالية"، ليس في غياب الأم -الوطن- الضائع، وإنما بينما "الأم في الغياب" القسري. الأم في الفيلم لم تكن مغيبة (في الغياب) كمظلوم مستلب وإنما غائبة في غيبوبة اختيارية لأنها رفضت مواجهة الحقيقة، وقد اعترفت هي بذلك لاحقاً ثم تلاشت. إنها الإنكار الذي يتلاشى مع الاعتراف، وليست الضمير الحي الذي يرزح تحت وطأة الظلم.
بالنسبة للكاتب، غرفة الأم، العالم الصغير الوهمي، موجودة "لحماية هشاشتها، لحماية المثال من التاريخ، ولحمايتنا من الراهن المعولم بالزمن الكوني الغني، بعدما كان لنا زمننا الفقير والصغير، ولكنه زمننا نحن". وهنا نقابل إسقاطاً آخر لعالم الكاتب وسياقه على حكاية الفيلم: الأم، الوطن، المثال، الحلم الهش الذي يحتاج إلى حماية، ليست فقط مكاناً جغرافياً بل هي فضاء زمني معين، زمان "كان"، زمان "فقير صغير لنا نحن فقط" يقضي عليه التاريخ الحقيقي، تاريخ الملوك الطغاة؛ هذا التاريخ الغول الذي أنتج اليوم "الراهن المعولم"، الغني، الجذاب بأضوائه وإعلاناته وآلاته، لكن البائس كبؤس الوجبات الأميركية السريعة وإعلانات الكوكا كولا. الزمن الراهن، بالنسبة للكاتب، زمان مادي، حقيقي، لأنه مادي، لكنه غير مثالي.
إنه زمان الاستهلاك الذي لا يدوم إلا فترة الاستهلاك. إنه زمان قاسٍ يجعل المثال الغائب، الزمن الماضي، "بلا قيمة، ليس مسموحاً لهذا الماضي أن يورثنا غير الحنين". بقفزة استنتاجية أعتقدها سهلة، يمكن أن نقول، إن الكاتب يعتقد أن البقاء الأزلي هو للزمن المثال، الخارج عن التاريخ. ومثل كل الأيديولوجيات الإسلامية السياسية الحديثة فإن الكاتب لا يفلت من قبضة "الزمن الضائع"، الزمن خارج الزمن، زمن النبوة والصحابة، زمن المثال الذي قضى عليه "التاريخ" الحقيقي، تاريخ الحجاج وعبد الملك وغيرهم من الطغاة الذين غطوا هذا الماضي ولم يسمحوا له أن "يورثنا إلا الحنين". أو لنقل إنه زمن غير عادي حجبه تاريخ الطغاة، لكنه يعود في صحوات (من الغيبوبة الطويلة) مثل صحوة الحسين وابن الزبير وابن الأشعث؛ ثم بقفزة أخرى، صحوة الثورة السورية الآن. الزمن دائري بالنسبة للكاتب، يعيد نفسه بأشكال مختلفة لكنها كلها نسخ لحقيقة أزلية واحدة هي صراع المثال مع الطاغية.
وكما يحارب الشيعة شخصية "السفياني" في كل العصور كالشيطان المتجدد انتهاءً بمعركة صاحب ولاية الفقيه المطالب بثارات الحسين على أرض سورية، يحارب "أهل السنة" ممثَلين بسعيد بن جبير وابن الزبير وغيرهم شخصية الطاغية "الحجاج" في كل العصور انتهاءً بمعركة الجهاديين اليوم، "ملحمة الملاحم"، على "أرض المحشر" في سورية.
هذه المعركة النهائية بين الحق والباطل ستُريح البطل المتناسخ عن شخصية سعيد بن جبير من "عبء التنكر للتحولات الرأسمالية الجديدة والانشغال بصناعة التراث". هذه الراحة هي الحقيقة التي لم تفهمها حبيبة أليكس، حسب الكاتب، فقد "استغرقها الترف الجميل لزمن الرأسمالية الجديد … بتجدده وتنوعه اللامنتهي". لكن هذا "التجدد والتنوع"، بالنسبة للكاتب، ليسا إلا سمة التاريخ الحقيقي الراهن المبهِر الخادِع المتجسد بالرأسمالية الاستهلاكية، زمن القشور والتقلب الذي يغطي الجوهر الأزلي، ذلك المثال الضائع الذي لا يتغير. لم ينكر الكاتب أنه كان في زمن ماضٍ يعيش "بين كتب التراث"، وأنه أراد أن يكتب قصة أو قصيدة متخيلة "بين عامر الشعبي وأحد شباب الثورة المخذولين" (أي ثورة ابن الأشعث). من هو عامر الشعبي؟ عدا عن كونه مصدر عدد كبير من الأحاديث النبوية، إنه بتعريف الكاتب أحد "رؤوس ثورة القراء التائبين" (وأجد في تعبير التائبين بعض السخرية). إنه أحد رفاق سعيد بن جبير الذي استشهد بينما بقوا أحياء؛ أحد "التائبين" عن الثورة على الطاغية والمعترفين، من أجل الحياة، بأنهم كفروا بخروجهم على الحاكم. إنه أحد من "أعلنوا توبتهم من حماس المعركة وعادوا لطمأنينة المساجد".
كيف تتحول طمأنينة المساجد إلى شعار للخنوع؟ لعله يعني "مساجد الصوفية" الذين يتهمهم السلفيون بالتخاذل والقعود عن الواجب الأكبر، أي الجهاد ضد الحاكم الظالم. الشباب المخذولون في القصة المتخيَلة يسائلون الشيخ "التائب" بما يشبه المحاكمة ويسألونه "عن فتاوى القتال المنسية، وغضبة الثأر المطفأة، وحلم الانتقام من ظلم الطاغية". تقف إلى أذهاننا مباشرة مصطلحات "الفريضة السادسة"، "الفريضة المنسية" كمعانٍ محتملة لـ "فتاوى القتال المنسية". ما يريده الشباب الثائرون الذين "خذلهم الشيخ" وعنه يسائلون الشيخ، هو "الثأر" و"الانتقام" وليس "ثورة حرية وكرامة".
لا أنكر على الكاتب ثورته اليوم، ولا أنكر أننا جميعاً أردنا الانتقام في يوم من أيام الثورة وقبلها؛ لكن أتمنى اليوم لو نتكلم عن حرية انعتاق الإنسان من ظلم الدولة الديكتاتورية، وعن رد كرامة المواطن المقهور بالرّشى والقمع ونقص الفرص والفقر، أكثر مما نتكلم عن ثأر المهاجر المذلول، عن ثأر الآباء الذي ورثه الأبناء، عن مظلوميته محددة لا تبني وطناً وإنما تعلن حرباً لا نهاية لها. أفهم تماماً مظلومية الذين عاشوا "الهزيمة والموت والمنافي وضياع الهوية والإذلال" لأني عشتها كآلاف من السوريين، لكني أيضاً، أفهم أن حرب المظلوميات المتناقضة لا تبني وطناً بل تدمره. الحرب في سورية اليوم حرب مظلوميات، بين مظلومين وظالمين، لا يمكن أن تنتهي إلا بغلبة إحدى الفرق على الأخريات وإعلاء مظلومية الغالب فوق كل السرديات الأخرى باعتبارها زائفة تحصَّن وراءها الظالمون. لكن الحرب باعتقادي ستفقد سبب وجودها إذا تحولت إلى جهد جمعي تشاركي ضد منظومة الظلم وليس ضد ظالمين محددين من أجل إنتاج منظومة عدالة وحرية وكرامة، لا منتصرين منتقمين.
تعلمنا في هذه الثورة بشاعة التجبر وعرفنا قساوة مصادرة مشاعر الآخرين وغضبهم ومظلوميتهم مهما كانت تافهة بالنسبة لنا. لا أريد أن أصادر مظلومية أحد، وأتمنى لو يصرخوا ليل نهار بما في قلوبهم من حزن وغضب ليُسمعوا الآخرين. لكني أدعو الكاتب إلى أن يستمع إلى الطيف الواسع للمظلوميات السورية وأن يتصور، ولو للحظة، أن غضب الإنسان هو نفسه مهما اختلفت الحكاية، وأن يعي أن الحكاية، أية حكاية، ليست إلا نوعاً من "صنع التراث"، وأن إرث الآباء يجب أن يموت معهم تماماً كما في الفيلم. إن الصرخة التي أطلقها التونسي، "الذي قرر عنّا أننا هرمنا" باعتقاد الكاتب (إذ لا يهرم الثائر المجاهد)، قد لا تكون صرخة متقاعس عن الجهاد الأزلي، وإنما صرخة من سئم صنع التراث كما فهمه إريك هوبزباوم (الذي أشار إليه الكاتب مبيناً بأمانة علمية اختلاف فهمه للتراث عن المعنى الذي استخدمه الكاتب)، تراث الانتقام والثأر. قلما يجد المظلوم الثائر ظالمه وسجانه، ذلك الشخص الذي أهانه وآذاه ليمارس انتقاماً شخصياً يشفي غليله. إن نضج أية ثورة يكون حين تتخلص من غضبة الثأر وتعي أن الظالم ليس شخصاً وإنما منظومة سمحت لأناس عاديين أن يصبحوا سجانين ظالمين.
أتمنى أن لا يصبح الكاتب وآلاف من الثوار مثله "من قدماء الثوار". لكني أتمنى، أيضاً، أن يكون لديهم مشروع لما بعد الغلبة وإشباع رغبة الانتقام. أتمنى لو ينظرون حولهم ويتعرّفون على الحرية التي يحلم السوريون بها وعلى الكرامة التي يطالبون بها. إنها أكبر بكثير من انتقام أو حكاية مظلومية، إنها حياة. اسمعوا قصصهم وحكاياتهم، إنها ليست حكايات سعيد بن جبير وعبدالله بن الزبير والحجاج وعبد الملك. الآلاف الذين صارعوا الأمواج ليصلوا إلى ألمانيا والسويد ليسوا متخاذلين، إنهم أناس يريدون الحياة كما وهبها لهم الله بمباهجها واستهلاكها، ولا يرون ضيراً في التنعم "بطمأنينة المساجد والترف الجميل لزمن الرأسمالية".
(سورية)