عن النساء والرجال

10 اغسطس 2014

ناشطة مشاركة في الثورة اليمنية (24 اكتوبر/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -


قالتها امرأة حانقة، في لحظة تاريخية فاصلة، فذهبت مثلاً وتقسيماً بيولوجياً وظيفياً جائراً، ما تزال المرأة العربية تحديداً تدفع ثمنه، (ابك كالنساء مُلكا لم تحافظ عليه كالرجال). تلك العبارة اللعنة التي رددتها عائشة الحرة على سمع ولدها، الأمير أبي عبد الله الصغير، إبان سقوط غرناطة، فاستقرت في لاوعينا الجمعي المعادي للأنوثة، المعتاد على الحط من شأنها، باستخدام المفردات الدالة على أعضاء جسدها أداةً لتوجيه الإهانة والتحقير والنيل من الكرامة.

المؤسف أن مثقفين كثيرين تبنوا هذه المقولة. قرأتها خلال يومين على صفحات مخرج وشاعر وممثلة وناشط حقوقي، رددها الزملاء بنيات حسنة في سياقات مختلفة، تصب كلها في شتم زعماء الأمة، جراء تقصيرهم في نصرة أهل غزة، من دون تدقيقٍ كبير في الدور العظيم الذي تلعبه المرأة، مناضلة شجاعةً لا تهاب الموت، وهي، بطبيعة الحال، لم تركن عاجزة إلى زواية ذارفة الدموع، بل كانت فاعلةً ومؤثرةً في شوارع غزة، وفي أحيان كثيرة، شهيدة حرة، بذلت عمرها قرباناً لحريةٍ موعودةٍ من تحت الانقاض.                                                                            

والمؤسف أكثر، أن فئة من النساء ما تزال تفكر وتتصرف وفق منطق ذكوري محض، فلا تتردد في التعبير عن ارتياحٍ بالغ، وليس مستبعداً أن تشعر بالتفوق على مثيلاتها من النساء، ولربما تخشى غيرتهن فيما بعد، حين يقال لها، في سياق الإطراء الرفيع، إنها أكثر رجولة من (رجال بشواربهم!)، وتغدو سعيدةً ومنتشيةً بما تظنه إنجازاً يستحق الاحتفال. وفي تبرؤ كامل من فكرة الأنوثة من أساسها، باعتبارها قرينة على الضعف والتخاذل، يقودنا مثل هذا الطرح إلى إدراك الفهم الملتبس عند كثيرين لمعاني الرجولة والأنوثة، على حد سواء، ضمن تصنيفٍ تقليديٍّ ينتهجه السواد الأعظم على نحو فطري، من دون إدراك عواقب هذه الظاهرة على الأجيال، فصفات النبل والكرامة والشهامة والشجاعة والجرأة والصدق والقوة، كلها وغيرها الكثير، مرادفات لكلمة واحدة: الرجولة.

ويكفي أن تطلق بلهجة تفخيم على أحد ما صفة رجل، وحدها من دون أي إضافات، حتى تكون قد كثفت كل المزايا، وبلغت أقصى مدى ممكن في المديح العالي. وفي المقابل، يدفعنا طرح كهذا باتجاه التأمل في الفكرة النقيصة، هي الأنوثة، حيث افتراض السلبية والضعف والتسليم بذريعة الحكمة والصبر والرقة الذليلة، تحت مسمى الخفر والتراجع والجبن والتردد، بحجة رقة القلب ورهافة الحس، وكأن مثل هذا التصنيف هو الأصل في طبائع النساء.

أما ما نعتبره استثناءً لا يقاس عليه، فهو توفر امرأة تتمتع بمزايا وصفات إيجابية وقيم عديدة، كالنخوة والعدالة والفروسية وطغيان الحضور وجدية الطرح. عندها، نجردها من أنوثتها من حيث المبدأ، أي نستكثرها على صنف النساء من أصله، فنقول "هذه المرأة رجل"، أو نكتفي بمقاربة مجحفة بدورها، بحيث نقول إنها "أخت الرجال"، بمعنى أنها تضاهيهم في مزايا الذكورة الإيجابية، المتعارف عليها، ما يعني، وفي أحسن الأحوال، وحين تصل إلى القمة في صفاتها الحسنة، أنها تحرز لقباً يؤهلها لأن تكون شبيهة بالرجال! وإذا اتفقنا أن الرجال ليس كلهم فرساناً أشداء نبلاء مدافعين عن الحمى، ذائدين عن الحوض، مقرين الضيف، رافضين المذلة، غير نائمين على الهوان والضيم!، إذ قد تطغى على كثيرين منهم صفات سلبية عديدة: فإذا كان الرجل ثرثاراً، نمّاماً، متردداً، قليل الهمة، نعمد إلى التشكيك به، أو قد ننزع عنه صفة الرجولة على الفور: فيقال إنه ليس رجلاً، بل إنه "مثل النسوان"، وهي أكبر إهانة تلحق برجل، حسب المنظور السائد.

يعد هذا النمط من التفكير الذي يحكم ثقافتنا وموروثنا مؤشراً شديد الخطورة على حقيقة النظرة الدونية للمرأة في اللاوعي الجمعي، والتي يقترفها المجموع بما فيه النساء. تسهم المرأة، أحياناً، بشكل غير واع في تكريس مثل هذه النظرة، حين تكون غير متصالحة مع ذاتها، سيدة حرة جديرة بالاحترام لصفاتها، وغير واعية بشكل عميق لجوهر الأنوثة، امتيازاً يستحق الزهو والاعتزاز، وليس نقطة ضعف، نعتذر عنها ونكفر عنها، ونداريها كما لو كانت خطيئة، من خلال محاولات الارتقاء إلى مرتبة الرجولة الزائفة!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.