02 نوفمبر 2024
عن استقلالية القضاء في تونس
القضاء ركن متين من أركان قيام الدول واستمرارها، باعتباره الجهاز المكلف بضمان الحقوق والواجبات، والمعني بتحقيق التوازن بين الحاكم والمحكوم، وترتيب أسباب التعايش بين الناس، وفض التنازع بينهم. وكلما كان القضاء مستقلا نزيها، كان السلم الاجتماعي مستتبا، والشعور بالمواطنة والمساواة حاضرا، وعلى القضاء المعوّل في تحقيق العدالة وتدريب المواطنين على احترام القانون. وتعمل السلطة القضائية في الدول الديمقراطية المتقدمة في كنف الاستقلالية، وتربطها بالسلطتين، التنفيذية والتشريعية، علاقات تعاون وتواصل، لا علاقة هيمنة أو إتباع أو تنافر. والمراد التمكين للعدل وتسويد القانون في تنظيم أحوال المجتمع المدني.
وقد عانى القضاء في تونس قبل الثورة من هيمنة السلطة التنفيذية، ومن سعي الحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة إلى تدجين القطاع، وتوظيفه لخدمة مصالح النظام الاستبدادي، والتشريع لممارساته القمعية، فجرى استخدام القضاء لتكميم الأفواه وللتنكيل بالمعارضين، وزجّهم في غياهب السجون بإصدار أحكام قاسية في حقهم. ولم يمنع ذلك قضاة شرفاء من رفض الانصياع لـ"تعليمات" القصر الرئاسي والنظام البوليسي في تلك الفترة، وهو ما كلفهم التجميد في الرتبة أو الإحالة على مجلس التأديب.
وكان المتوقّع بعد الثورة أن القضاء التونسي سيمارس صلاحياته في كنف الاستقلالية التامة في ظل قيام الجمهورية الثانية، وصوغ دستور تقدمي توافقي، أعلى من قيمة القضاء، وأكّد ضرورة توفير الشروط المناسبة ليؤدي القضاة دورهم في إقامة دولة الحق والواجب، فقد جاء
وفي أثناء الحملة على الجماعات الإرهابية، أصبح القضاء موضوع اتهام في منابر إعلامية
وتكمن خطورة هذا التوجه في التعامل مع القضاء في أنه يستبطن التشكيك في جهد القاضي في طلب الحقيقة، ويعجّل في اتهامه بالتقصير، ومطالبته بتزكية القرارات الأمنية والنقابية بطريقة ارتجالية، وهو ما يُعدّ تدخّلا سافرا في عمل القاضي، وطعنا في مصداقيته واستقلاليته، وتشويشا على جهده في البحث والتمحيص. ويُخشى من أن يتحول الخوف من الإرهاب، ومن الاصطفاف القطاعي للمهنيين، إلى مطية يتم ركوبها لإخضاع القضاة لإملاءات الأجهزة التنفيذية وقوى الضغط، وهو من أبواب عودة دولة المحاباة، يتعارض مع مطلب استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات في الجمهورية الثانية.