عن "الحقيقة الحقيقيّة"

11 اغسطس 2015
لوحة للفنان التونسي عادل مقديش
+ الخط -
بعد عدة أشهر يمرّ عقد من السنوات على خطاب الكاتب الإنكليزي هارولد بنتر الذي كتبه في مناسبة تسلّمه جائزة نوبل للآداب لسنة 2005 (قبل ثلاث سنوات من وفاته سنة 2008).
وقد تمّ إلقاء الخطاب نيابة عنه أمام الأكاديمية السويدية يوم 7 ديسمبر/ كانون الأوّل 2005، لتعذّر سفره بسبب المرض.
في ذلك الخطاب الطويل الذي يمكن إدراجه في إطار ما خلّفه هذا الكاتب من إرث فكريّ، حدّد بنتر مهمة المبدع أكثر من أي غاية أخرى في السعي لتعريف ما سمّاه "الحقيقة الحقيقية" للواقع الذي يعيش في كنفه، بل اعتبر أن هذا السعي هو تماماً ما يحكمُ الجهد الذي يبذله الكاتب للاستكشاف والإلماح إلى عوامل التجاوز.
وبرغم أنه أكد بشكل جازم عدم إمكان بلوغ الحقيقة في المسرح على الإطلاق، إلى جانب استحالة العثور عليها كاملة فيه، فإنه أشار إلى أن "إصرارنا فقط على تعريف الحقيقة سيعيد لنا ما فقدناه من حياتنا: الكرامة الإنسانية".
كان بنتر في حياته (ولد سنة 1930 وتوفي عن 78 عاماً)، كاتباً مسرحياً وشاعراً. واشتهر باستخدام الكلمات لأغراض غير تلك المألوفة إلى ناحية جعل إيقاعها يولّد إحساساً بالخوف والتهديد. من هنا وصف بعض النقد أعماله بأنها عنيفة وأطلقت على مسرحياته تسمية "كوميديا التهديد". كما اعتمد كثيراً على تكرار الكلمات والألفاظ وعلى تجريدها من معناها المصطلح عليه بحيث تكتسب كياناً مستقلاً عن المعنى الذي يحدّدها لها .
أطلق على بنتر أيضاً لقب "شاعر الصمت" لأنه أكثر من استخدام فترات الصمت في الحوار وكان يهدف من وراء ذلك إلى جعل المتفرج يتصوّر الاضطرابات النفسية أو المخاوف والأحاسيس المتعدّدة التي تعتمل في نفسية الشخصيات.
عندما سُئل بنتر في أحد الحوارات معه: ما هو المسرح بالنسبة إليك؟ أجاب: "إنه ملعبي. فيه أطلق العنان لكلّ ما أوتيت من جنون وهلوسة، ولذا غالباً ما تكون شخصياتي غريبة على نفسها وعلى العالم، مثلي. وهذا ما يدفعني أيضاً إلى التمثيل في مسرحياتي. إنها عالمي البديل الذي أصنعه على مزاجي، وبه أنتقم من حدود العالم الفعلي الضيّق الذي أُعطي لي. إن الكاتب المسرحي إله، يعيد اختراع الكون مع كل مسرحية جديدة. إنه إله يجلس وحيداً مع نفسه ويفكّر: من سأخلق اليوم وماذا سأفعل بتلك المخلوقات؟".
ثمة مسألتان أخريان ملفتتان في هذا الخطاب:
الأولى، تنويه بنتر أن الكلام السياسيّ على النحو الذي يتم استخدامه من جانب معظم الساسة لا يغامرُ مطلقاً في خوضِ مسار تعريف الحقيقة، لأن غالبية الساسة لا يهتمون بالحقيقة بل بالسلطة وبالحفاظ عليها. ولكي يُحافظ هؤلاء على هذه السلطة ينبغي للناس ـ الجمهور العريض ـ أن يبقوا أسرى الجهل، وأن يحيوا في ظلّ جهل الحقيقة، بما في ذلك حقيقة حياتهم الخاصّة، وبالتالي فإن ما يحيط بنا إنما هو نسيج رحب من الأكاذيب التي نتغذّى منها.
الثانية، كشفه مخادعة المرآة. برأي بنتر عندما ننظر إلى المرآة نعتقد أن الصورة التي تواجهنا دقيقة، لكن ابتعد مليمتراً واحداً والصورة تتغيّر. فنحن في الحقيقة ننظر إلى انعكاسات لانهائية. بيد أنه في بعض الأحيان يتعيّن على الكاتب أن يحطم المرآة لأن الحقيقة التي في الجانب الآخر تحدّق بنا.
في المقطع الأخير من الخطاب ذكر بنتر أنه أتى مراراً على ذكر الموت في الخطاب، ولذا أبدى رغبته في أن يقرأ إحدى قصائده وعنوانها "الموت"، والتي يقول فيها:
أين وجدت الجثة؟
من وجد الجثة؟
هل كانت الجثة جثة عندما وجدت؟
كيف وجدوها، الجثة؟
من كانت الجثة؟
من كان والد الجثة المهجورة
أو ابنها أو شقيقها
أو عمّها أو أختها أو والدها أو ابنها؟
هل كانت الجثة جثة عندما هجروها؟
هل هُجرت الجثة؟
من هجرها؟
هل كانت الجثة عارية أم ترتدي ثياب الرحلة؟
ما الذي دفعكم إلى إعلان الجثة جثةً؟
هل أعلنتموها جثة؟
إلى أي مدى كنتم تعرفون الجثة؟
كيف عرفتم أنها جثة؟
هل غسلتم الجثة؟
هل أغمضتم عينيها الاثنتين
هل دفنتم الجثة
هل هجرتموها؟
هل قبّلتم الجثة؟ (الترجمة العربية نقلاً عن موقع "جهة الشعر" الإلكتروني).
لعلّ هذه القصيدة تشكل نموذجاً لما قصدناه أعلاه من الإشارة إلى بصمة بنتر في تجريد الكلمات من معناها المصطلح عليه. فضلاً عن أن في هذا النموذج ما سيظلّ منطبقاً على استكشاف الواقع من خلال تعريف الحقيقة الحقيقية.
المساهمون