عرب أوروبا.. محك الهوية الحقيقي في رمضان

25 يونيو 2016
بعضهم يعيش قناعاته رغم التحولات (فرانس برس/GETTY)
+ الخط -


سعاد وزوجها من عائلة دمشقية متوسطة، كافحا في حياتهما قبل وبعد رحلة اللجوء، وقد أصابهما انكسار داخلي، لأنهما عاشا على المعونات الاجتماعية في أول سنتين من قدومهما إلى بلجيكا. شعرا بإهانة لأنهما اعتقدا أنهما ممن لا يحتاجان إلى الناس، ما داما يكافحان للعيش الكريم وبلا سؤال.

تتحدث سعاد لـ"العربي الجديد" عن حياتها في بروكسل، وتقول:" للسنة الرابعة على التوالي، وكلما أتى شهر رمضان، تصيبني نوبات من السرحان والتفكير، ليس لأنني أشتاق لطقوس الشهر الفضيل كما كنا نحياه، ولكن ﻷن رمضان يضعني وجها لوجه مع ذاتي".

تغالب عطشها لتجهز طبق إفطارها، فــ "الفتة" تتيح لها ملامسة "دمشق"، بالذوق والرائحة، لكن الذكريات ليست سوى موسيقى تصويرية ترافق ما تبثه مخيلتها من مشاهدات تتكرر يوميا.

وقت قصير مضى، بعد أن أحضرت طفلها من مدرسته، وعقلها يقلب صور الأمهات على بوابة المدرسة، وكالعادة تراودها تساؤلات اللباس والعادات والتغيرات والتناقضات. 
يقترب "نجيب" ويسأل الأم: لماذا لا يصوم أبي كما تصومين؟ تجيب ببديهية:" لا يستطيع صيام تسع عشرة ساعة وهو يعمل في المطعم، إنه يتعب كثيرا".

تحت إصرار السؤال تجيب: " زوجي تغير كثيرا، ولعل ما شاهده في سورية، دفعه للتشكيك في كل شيء". وتضيف: "بعد مرور سنتين، صار ابني يسأل عن (الدين) وتحديدا في رمضان.. في البداية كنت أستغرب اهتمام طفلي بهذا الموضوع، وهو لا يتجاوز ثماني سنوات".

نجيب يعود من مدرسته محملا بكثير من كلام زملائه، بعضهم مسلمون، وينقل لأمه بعض الحوارات الطفولية، فكل شيء عن الدين، بمثابة "غرابة"، تفاجئ الطفل الذي بدأ يتقن الفرنسية أكثر من العربية، وهو الذي يقضي نحو 8 ساعات يوميا في مدرسته البلجيكية.




تقول الأم: "أستثمر غياب زوجي الطويل عن البيت، وأجيب عن بعض تساؤلات ابني حول الدين، لكنني أخفق في إقناعه، ليس لأنه يرفض الاقتناع، ولكنه يريد إجابات منطقية، ونحن لم نتعلم إخضاع المسائل الدينية للمنطق، بل لم نفكر في حياتنا، بالطريقة التي يفكر فيها طفلي".

تستعيد تماسكها وتكمل:"ربما من الطبيعي ألا يقتنع طفلي ببعض كلامي، فأنا لم أعد بالنسبة له مرجعية مقنعة، فهو يتفوق عليّ بلغة البلد هنا، ويتعامل مع الأجهزة الإلكترونية أفضل مني ومن أبيه، وكثيرا ما نستعين بنجيب لقراءة رسائل البريد باللغة الفرنسية، وشيئا فشيئا صار الطفل يشعر بأنه يعرف في الحياة أكثر مما نعرف، واعتقد أنه يُجري مقارنات بيننا وبين أولياء أمور زملائه، حتى أنه يعطي لنفسه الحق، بالتعليق على بعض ممارساتنا".

تنظر إلى الساعة ثم تكمل: "أنا لست متناقضة، أو كنت أعتقد أنني كذلك، لكن ابني وكأنه جهاز تسجيل، يحفظ كل شيء، ويفرج عن محفوظاته إذا استدعت المناسبة.. أشعر وكأن عقله مليء بملفات صنفها جيدا، إنه يريد كل شيء بتسلسل منطقي، ويقرأ صفحات الحياة بطريقته".

تنشغل "سعاد" كثيرا بالمقارنات بين سورية وبلجيكا، تتحدث عن طفولتها، تمتدح انسجام المجتمع السوري مع العادات والتقاليد والعقائد ثم تنتقده في ذات الوقت، تدافع عن قناعاتها، ثم تنتقد عدم انسجامها مع اعتبارات العصر.. هي تعبر عن إرهاصات التحول في حياة اللاجئين، لا سيما خلال السنوات الأولى من هذه التجربة القاسية ثقافيا ودينيا.

تكرر كثيرا (نحن وهم)، ومع ذلك تبدو وكأنها رتبت أولوياتها، فهي ستبقى ذاتها ولو مع بعض التغييرات، والأولوية لطفلها نجيب. ترضى عنه أحيانا، وترى فيه نموذجا جديدا لن يكرر معاناة وأخطاء والديه، وتشغلها كثيرا، تلك الفجوة بينها وبين طفلها.

تقول سعاد: "أفكر كثيرا بالعودة للضغط على زوجي، كي يقبل بنهج آخر في تربية طفلنا الوحيد، كأن نرسله مثلا لمدرسة دينية في عطلة نهاية الأسبوع، أو نتولى وحدنا تعليمه الأصول في ديننا، فنحفظه سورا قصيرة من القرآن.. أفكر ثم أفكر ثم أفكر، لكنني لم أعد مقتنعة في داخلي، بأن زوجي هو السبب، لقد لمته كثيرا في الماضي، أما اليوم، فأتخيل حجم التناقضات الذي سيحياها طفلي لو قررنا تحفيز اهتمامه بالدين".

المساهمون