نبيذ متبَّل
شيّدنا نصباً تذكارياً خفيفاً
ريشةً، جناحاً، برْقاً
في الليل -
ثم جلسنا واحتفلنا
فتحنا الجرّةَ،
رششنا الفلفل
والسكّر والقرفة السيّئة
وسألنا أنفسنا
أسئلةً تنبض بالحياة
مثل لماذا تبدو
الظلالُ أطولَ
في الواقع
مما هي عليه في الحلم، لماذا
ابتسامة الأم دون سواها
تتغذّى على تفاحة آدم
لماذا يعبر ثعلب الخوفِ درعَ الصدر
المانيكان المخصّص لكل الاستعمالات، الأعين المسمّرة
بالأرض، التوق الذي لا شكل له،
الأفعى المنزلية التي بلا مأوى
شيّدنا نصباً تذكارياً
بقدمٍ مصنوعة من الطين
ثم أفرغنا الجرار المطليّة
ولم تخفِ التوابلُ عطرَ تلك الأنثى،
"الفستية"1 بأظافرها الحديدية.
الوقت متأخّر للغاية
أُلصقُ أذني بالأرض،
وأصغي إلى نفخ الأم الهادئ.
1 نسبةً إلى الإلهة الرومانية فيستا
■ ■ ■
عبور الفرات
يُقال إن النهر لم يكن قَطُّ
سخياً مع أيّ جيش،
إذ بالكاد تلامس مياهه صدورَنا:
نشعر بأن الماء يصعد من خلال
الدرع الصدريّ
نخلاته الرقيقة احتلّتْ
ثقالة الأشياء الحديدية، كما لو أن الدرع خسر طبيعته
أمام كفن الفرات.
من الجنوب يمكن سماع الهدير
ورائحة اللحم المشوي
تتخلّل الظلماءَ
نتقدّم بصمت، مع سيليني (إلهة القمر) فقط
كرفيقة درب، كحبيبة، كأخت
تعرفوني بشكل جيّد، أنا
الطفل الإسبارطي الأسطوري الذي
سرق الثعلب
الوحش نفذ إلى جسدي،
حفر جحراً بخطمه المتعطّش
مروراً ببطني
حتى توقّف عند صدري، هناك
أحمله معي، أخبّئه تحت درعي
كرفيق سلاح
ولا شيء في العالم يخيفني
إلا ظلّيَ الخاص!
الطحلب البَطّيّ الطازج يبسط ذراعه على
عيون السماء المتعَبَة...
■ ■ ■
هارموني في الأزرق والفضي
قد أغلق العالم نفسه،
وبشكل موارب، تكمن الظلال
في تضاعيف مادّتها الخاصة
ثمّة تشريحٌ للعزلة انولَدَ
على خيط مُداولةٍ شفيفة
بين كفّتَي ميزان...
حيث الرمال تغسل الجسد الهامد
للبحر
نسيمٌ لطيف يلفّ المكان،
أفعى مبارَكة،
قدما الغريب.
■ ■ ■
غواية في البال
بدأ الأمر في ذلك الحين، حين كانت أقصى أمانينا أن نحظى
بصباحات أحدٍ كسولة، بأبخرتها، بالغسول الذي تُغطّينا به
ما بقي هذا الـ"هنا"، ربما ابتسامة
لا أستطيع تفسيرها لنفسي
مَيل متردّد، بل ربما ارتعاش اليد،
حتى رماد الذاكرة، كأنما لم يُختبَر من قبلُ
وخارجين من آلامنا ثمّة صورة أخرى
تظهر وراء الرموش
وجهك في ما يشبه العتمة،
الجمال، نضارة البشرة
صورة حيّة ملقاة على قماشِ
شجرة كرز تتّكئين عليها.
■ ■ ■
فاصل موسيقي
موقناً أنني لم أكن طفلاً أبداً، ليس
حتى في ذلك الحين
في ظهيرة الصيف الجميلة
موقناً أنني لم أخطئ أبداً
في فهمي للزمن، والانتقال الورَميّ المقيَّد
بهدنة مؤقّتة
أترك نفسي المرّةَ تلو الأخرى
لرتابة الزمن
جسدي وقد تصلَّبَ بالريح والغيم
كم سخيف ذلك الضحك
وكم كنتُ سخيفاً، بدءاً
بظهيرة الصيف الجميلة تلك.
■ ■ ■
مُثقلاً بالسنين، أمدّ يدي وأقطفك كزهرة
هناك الكثير من العذوبة في الخطْوِ
اللطيف للصيف عبْرَ حقول باختريا الخضراء،
وفي الطريقة التي يرفرف بها فستانها في مدى رؤية سائق العربة
حتى تنكيس الأعين إلى جهة أوردة الساعد النازفة
يبدو الآن لعبة طفل
فقط حين أربط صندلك
أستطيع نسيان رقّة السيقان التي تذكّر بهشاشة
السفينة (صوت قضم عظام الدجاج!) أو الأداء الممتع للكاحل
نسيتُ الصحراء الثلجية
التي ألقينا بأنفسنا فيها، ليلةً بعد ليلة،
نحن وتواريخنا المهيبة
نسيتُ السنَّ المنخورة في مؤخّرة فم البطل،
رئات توأمَين واهنة (كما الأذرع...)،
نسيتُ دموع الشتاء تتبدّد في لحيةٍ
أبلتْها السنون، أمدّ يدي وأقطفك كزهرة،
في حقول باختريا الواسعة،
تهزهزين خصلتَي شعرك الداميتين. الإشاعتين
الأخيرتين في هذا المساء.
■ ■ ■
شاعرُ طبيعةٍ آخر
سريعةً تميل الظهيرةُ صوبَ الليل،
إنها اللحظة التي تضع فيها ركبتك بحذرٍ في الرماد
كلّ ذلك كان عواءً يذوب في الهمسِ
تشتم بصوت خفيض، تُطرق بأنظارك أكثر فأكثر ونادراً في الغبار
هناك الآن المزيد من لحظات يدور فيها الثعلبُ حول قطعة اللحم
مؤونة الشتاء تنبض
كلّ ذلك كان تمثيلاً مرَّ أنيقاً وتحوّل إلى هتافات، إلى أفعال
تشتمُ بصوت خفيض، عبر النيران شقّقت طريقك نحو
شاعر الطبيعة، ما وراء التجاعيد
العميقة
(رغم أنه شابّ، يا سيدتي!)
واهن، متصبِّغ بالتبغ
لعقود خلتْ كان شاعرُ الطبيعة
ينشِد، فليباركه الربّ، عن قفز النعامة
عبْرَ الكثبان الرملية
شتاء أوراق الذرة الفاتنة
البتولا المتراقصة مع هبوب العاصفة الثلجية
لكن ماذا عن سفينة الصحراء؟ أبارجة حقيقية، يا صديقي القديم!
سريعةً تميلُ الظهيرةُ صوبَ الليل،
وما بين ألسنة اللهب تصوّب نحوه متعرِّقاً،
وفخذٌ سمينة
بين يديه
حالماً بموت الغزال في المرجل النحاسي
أصابع أقدام شاعره الطبيعي، سوداء
بفعل الدخان، بفعل الأظافر المخشوشنة،
محني الظهر فوق اللحم
يحرك الرماد المنقوع بالشحم
يغمزك، قد حان وقت خروج الشياطين
للرقص. فلنفعلْها،
أيها الفيلق،
فلندُسْهم بالأقدام.
* وُلد Bogdan-Alexandru Stănescu عام 1979، وهو شاعر وكاتب روماني، يعمل أستاذاً في جامعة بوخارست. له في الشعر: "حين، بعد المعركة، التقطنا أنفاسنا" (2012)، و"آناباسيس" (2015). وكتابا مقالات: "ما الذي يبقينا بعيدَين، رسائل من نزل مانوك" (2010)، و"أدخلِ الشبحَ، رسائل متخيَّلة إلى أوسيب ماندلشتام" (2015).
** ترجمة أحمد م. أحمد