خمس مجموعات صدرت إلى اليوم للشاعر والمترجم المصري عبد الرحيم يوسف شاعر (الإسكندرية، 1975). يكتب يوسف قصيدة النثر بالعامية المصرية التي ترتكز معه على مساحة كبيرة من السخرية والتهكم، ينطلق منها ليواجه أسئلة الحياة وعبثيتها في شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والعمرانية والثقافية.
بجانب السخرية، يلتقط يوسف، عبر عين مدرّبة، تفاصيل الحياة اليومية ليصنع منها سرديته الخاصة عن الإسكندرية، تلك السردية التي تشتبك بالواقع ولا تهرب منه، وتدفع القارئ ليكون جزءاً منها، بل وصانعاً لها، عبر التماسّ مع لغة سكان المدينة والانشغال بسياقهم الاجتماعي: "لا مؤاخذة إن كان فـ ضميرك حاجه/ قولها ماتحبسهاش/ تقدر تعتبرها قعدة صفا- مش قصيده/ منديل الأمان مفروش زي الملايه/ ويساع م الحبايب ألف".
هذه المساحة من الانفتاح على القارئ ودعوته ليكون فاعلاً وشريكاً في العمل، وليس مجرّد متلقٍ، يقول عنها الشاعر المصري، في حديثه إلى "العربي الجديد": "لا أحب التعالي على القارئ، وأرى أنه حر في تلقيه وفهمه للقصيدة واعتباره لها شعراً أصلاً أم لا. لكن يهمني أن أشير إلى أن هذه الروح (الحوارية) لم تكن مقصودة في البداية، إلى أن لفت انتباهي بعض الأصدقاء المسرحيين إليها وبدأ بعضهم في توظيف بعض قصائدي في عروضهم المسرحية".
ينشغل يوسف أيضاً، في العديد من قصائده، بفكرة "أنسنة الأشياء" والتأريخ لها. ففي قصائد مجموعته "كراكيب جديده" الصادرة حديثاً عن "دار العين"، تظهر أصوات وحكايات خاصة للساعة والكتاب والزجاج الملوّن. يكتب مثلاً: "أنا مش فاكر حاجه من وجودي السابق/ وما وعيتش إلاّ عَ الإطار ده/ وتقسيمة الألوان دي/ وبعدين شفت كل حاجه/ ومش عايز أشوف أكتر!/ بس أكيد فيه تصريفه تانيه/ غير الشروخ... والكَسْر!".
حول هذا الشغف بذاكرة الأشياء البسيطة والمهملة في حياتنا والرغبة في الانفتاح عليها، يشير يوسف إلى أن الشعر مساحة حرة بالأساس يمكنك فيها كشاعر أن تلعب وتحاول إبراز مهاراتك في الوزن والصياغة إذا كنت من أصحاب الشعر الموزون، أو في خلق موسيقاك وعوالمك الخاصة كما في قصيدة النثر أو الشعر الحر (وهو التعبير الأجمل بالنسبة له)، وهذه المساحة الحرة مفتوحة كذلك على الخيال والواقع والهموم الخاصة والعامة التي يحاول الشعراء التعبير عنها كل بلغة وقاموس وأسلوب خاص؛ وهذا هو ما يحاول فعله.
يبدو يوسف مشغولاً بسؤال الزمن، وفي تعامله مع هذ السؤال يستمر في مشاغبته وسخريته، فلا يستسلم لفكرة الحنين الجارف ولا ينحاز لحكمة مفتعلة، بل يطرح تساؤلات كثيرة ومتنوّعة حول رؤيته للزمن ويترك للقارئ مساحة مفتوحة للإجابة والتفاعل وطرح مزيد من الأسئلة.
يقول لـ "العربي الجديد": "الزمن بالنسبة لي كائنان/ زمنان، زمن عام يشمل كل ما عاشه العالم ويعيشه بعيداً عني: التاريخ والأحداث الكبرى التي أتلصّص عليها في الكتب والأفلام والموسيقى والخيال. وزمن خاص هو ما عشته وأعيشه وسأعيشه كإنسان موجود في هذا المكان في تلك الفترة من التاريخ التي بدأت عام 1975 ومازالت مستمرة حتى الآن".
يضيف: "زمني الخاص محكوم كثيراً بالماضي، ذلك الصف من الشموع المنطفئة الذي يتزايد طوله عاماً بعد عام كما وصفه كفافيس. زمن مليء بالفشل والنجاح والخوف والسعادة والذكريات التي كانت سعيدة ذات يوم وانقلبت مع مرور الزمن لشيء آخر، لذلك تجدني في تصدير الكتاب لم أجد خيراً من اللجوء لوالد الشعراء فؤاد حداد: "باقول دلوقتي والَّا زمان؟ كل حبَّه نفسي أغنّي، شيخوخه مباركه بإذن الله، بسّ اللي يسمعني يهاود وما يربطش الكلام قبل ما يتربط، خلّينا نبحبح". هذا المقطع هو خير تعبير عما أقصده من تداخل الماضي بالحاضر، من الإحساس بالشيخوخة قبل أوانها، من التعامل مع الزمن بخفة حتى لو كان ثقيلاً، وربما التعامل بنفس الطريقة مع الشعر".
يلعب سؤال اللغة دوراً بارزاً في مسار صاحب "كراكيب جديده"، فرغم معرفته الجيدة باللغة العربية الفصحى إلا أنه اختار أن يكتب قصيدة العامية، عن هذا الاختيار يقول: "الكتابة بالعامية ليست فقط بديلاً لمن لا يجيد الفصحى، أسماء مثل عبد الله النديم وبيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، على سبيل المثال، كانت تتقن الكتابة بالفصحى ولمعظمهم إبداع جيد بها. وقد كتبتُ الشعر بالفصحى في البداية ثم اتجهت إلى كتابة العامية تأثراً بسيد حجاب والأبنودي ثم فؤاد حداد من بعدهما، وتوقفت عن كتابة الشعر بالفصحى تماماً عام 2000".
تستحوذ التقنيات السينمائية من مشهدية ومونتاج على جانب من كتابات عبد الرحيم يوسف. وحول هذا الشغف يقول: "السينما بالنسبة لي في جانب منها مورد معرفي وشعري وبصريّ كبير. لكن من جانب آخر كان من أحلام صباي الكثيرة أن أكون مخرجاً سينمائياً، وكثيراً ما شاهدت الأفلام متقمّصاً شخصية صانعها لا ممثليها. ربما يكون هذا سبباً في محاولتي صياغة مشاهد شعرية سينمائية تعويضاً لفشلي في تحقيق هذا الحلم".
وحول عمله كمدرس للغة الإنكليزية وإلى أي مدى يمثل مساحة مختلفة للولوج إلى عوالم جديدة يضيف: "أعمل مدرّساً منذ تسعة عشر عاماً، وطوال هذه السنوات لم أكن أتمنى إلا أن أترك هذه الوظيفة. أحياناً يقول البعض أني مدرس جيد، لدي علاقات جيدة مع معظم تلامذتي، وأشعر بالمتعة غالباً وأنا أشرح أو أيسّر نشاط الطلاب، لكني أكره الاستيقاظ مبكراً، وأكره روتين العمل والأوراق التي يعتبرها المسؤولون أهم من عملك شخصياً. أعرف جيداً أن هذه السنوات أكسبتني خبرات حياتية لم أكن لأكسبها من دونها، وأن الكثير أو القليل من هذه الخبرات استخدمتها في قصائدي، لكني أتطلع حقيقة ليوم مغادرتي هذا العمل".