عبده وازن وأرقّ قصائد النثر

03 فبراير 2015
+ الخط -
عن "منشورات الجمل" صدر حديثًا ديوان الشاعر اللبناني عبده وازن: "الأيام ليست لنودّعها". يعيدنا هذا الديوان إلى نمط من الشعر قديم، بل ممعن في القدم؛ الشعر الاحتفالي، الذي يحتفي بإقامة الإنسان على هذه الأرض ويمجّد دهشته وهو يتملّى العالم ويتفرّس في الأشياء من حوله. 
قصائد هذا الديوان تبدو – إذا أخذنا بتقسيم "فيكو" للتاريخ - كما لو كانت قادمةً من عصر الآلهة، أمّا الشاعر فيبدو كما لو كان شاهدًا على انبثاق العالم من العماء الأكبر، شاهدًا على انفلاق البحار وارتفاع الجبال وانبساط السهول وانحدار الأنهار، لكأنّ العالم خرج للتوّ من فوضاه الأولى، ولا أحدَ يسكُنه غيرُ الشاعر الذي يُمجّد انبثاقه من المَلاء المُعتم ويُسمّي أشياءه.
التسمية في هذا الديوان هي وظيفة الشاعر، من طريقها تخرجُ الأشياء من حيّز الغياب إلى رحابة الحضور، فتنكشفُ بعد تستّر، وتتضح بعد غموض، فتنقشع، عندئذ، الفوضى وتستَتبّ العناصر ويبدأ التاريخ.
يمكن القول إن العنوان يختزل هذه الدلالات كلّها، إذ هو النصّ مكثّفًا، يقول القصائد بطريقة مواربة. وليست وظيفة القصيدة، من خلاله، أن تنعى بل أن تتغنّى. وليست وظيفتها أن تودّع بل أن تستقبل. القصيدة هي قابلة الوجود، تبشّر بالحياة في تجدّدها الدائم. كلّ قصائد المجموعة تقول هذه الدلالات مستخدمة صورًا أثيرية، شفّافة، تنطوي على شحنات أسطورية واضحة.
إنّ الشاعر وازن، حال أخذنا بعبارات هايدغر، يُعلن في هذه المجموعة، انتماءَه إلى الأرض. وهذا الانتماءُ قوامُه أن يكون وريثًا للأشياء جميعًا ومُتعلّقًا بها في آن معًا. يرى نفسه – كما يقول المتصوّفة - عينَ كُلّ صفة، ويرى كلَّ صفةٍ من صفاتِه – من حيث رجوعها إلى ذاته - عينًا أخرى. فهو الكثرةُ المتوحّدة أو الوحدة الكثيرة. في هذا السياق تتنزل قصيدته "منادمة" حيث يصف، على نحو رمزي، قصّة الهبوط من الجنّة في اتجاه جنّة أخرى: "أطيافًا كنّا/ مطرودين من الجنّة/ أشخاصًا سقطوا للحين/ من نجمة". صحيحٌ أنّ المطرودين لم يحملوا ثمارًا في جيوبهم، لكنهم حملوا حروفًا، فتلك كانت غنيمتهم بعد أن انفصلوا عن الفردوس. وفي هذا السياق أيضا تتنزل قصيدة "الصيادون" اللافتة، المكتوبة وفقًا لنموذج قصيدة النثر الفرنسية، حيث يحتفي وازن بالشعراء صيادي الحصى البارقة واللآلىء والأخيلة: "ألقينا الشباك في الماء وعدنا، نحن حرّاس النجوم الملألئة على صفحة البحر، سكان الشواطئ التي يرتادها القمر في أوج انخطافه، نحدّق إلى الأفق بعين خبأناها في الداخل، الشباك نرفعها في الفجر وإن لم تكن مثقلة..إننا الصيادون الذين لا ينتظرون ما تلفظه أعماق البحر، يكفي أن نسرّح أنظارنا أبعد ممّا تبلغ الغيمة...الرمل صديقنا والشمس لا تطلّ علينا". هذه القصيدة التي تلوّح صورها المائية إلى قصائد رامبو وسان جون بيرس وبول فاليري، قد ألمّت بوظيفة الشاعر بوصفه "رائيًا" يقتنص بعين خبّأها في الداخل، اللامرئيّ، واعدًا نفسه بخواتم من نور. أمّا زمنه فهو غير الزمن التاريخي، إذ يحيا، على حدّ عبارة الشاعر في "الأوسع من الزمن"، الزمن الذي "لم نعرف له اسمًا إلى حدّ الآن". 
تحضر المرأة في الديوان ضمن احتفالية الشاعر الكبرى بالحياة. فامرأة الشاعر صورة للأنثى الكونية التي فكّت بفعلها الخالِق العالم من أسْر الموت وأتاحت للطبيعة أن تتوالد وتتكاثر. في حضرتها يتحوّل الشعرُ إلى نشيد وثنيّ طويل يُعدِّدُ آلاَء الجوهر الأنثوي بوصفه تجسيدًا للمطلق. فيتمُّ الوصلُ من جديد بين الشعر والشعيرة والقصيدة والعقيدة بعد طول افتراق وانفصال:
"لأنك في الحبّ/ تعلمين الأشجار كيف تنحني/ تعلمين الضواري كيف تنام على الثلج/ تعلمين العاصفة كيف تغني/ تعلمين الصحراء كيف تفتح كتابها/ تعلمين البحر كيف يستسلم".
الطبيعة حاضرة أنّى حضرت أنثى وازن، من عينيها تتموج وتتخلّق، يكتب في قصيدة "عينان": " نجمتان ساهرتان/ في عزّ الظهيرة/ عيناك/ إذا أغمضتهما/ سقطت نجمةٌ من نومها/ إذا فتحتهما/ أشرق الليل في وهدتهما".
يحوّل وازن كلّ شيء إلى موسيقى ومجاز، كلّ عمله يتمثّل في إجراء الأشياء على غير مسمّياتها، في تحريض الاسم على المسمّى، في تسليط الثقافة على الطبيعة، في فتح الكلمات على إمكانات دلاليّة جديدة تتجاوز بها محدوديّتها، فالشعر لا يمكن أن يستمرّ إلاّ بتجاوز نفسه باستمرار، إلاّ بالارتداد المتواصل على ما استتبّ من قواعد وأعراف وتقاليد. ولعلّ هذا ما يفسّر مراجعة الشعراء المستمرّة لوسائلهم التشكيليّة وصورهم ورموزهم.
هذه النبرة الاحتفالية هي التي بسطت على شعر وازن ظلالًا من الغنائيّة لا تخطئها الأذن؛ الغنائيّة بما هي تعبيرٌ عمّا تموج به نفس الشاعر من انفعالات وأحاسيس، وبما هي أيضًا خطاب ينطلق من الذات ويرتدّ إليها باستمرار: "لا أسأمك أيتها الشجرة/ مهما طال جلوسي تحت أغصانك/ الروح تبحث عن روح لها شقيقة/ تذكرها جيدًا وإن كانت تجهلها/ هل نسيت أيتها الشجرة/ أنّنا كنا توأمين/ في أبد نسيناه هناك/ خلف سفوح يقظتنا؟".
تتجسّد الغنائية في هذا الصوت الفرديّ الحميم وهو يخاطب الشجرة خطاب الشقيق للشقيق، مستدعيًا، بطريقة خفيّة، كلّ الأساطير التي تعيد الأشجار والبشر إلى سلالة واحدة، مفصحًا عن تشوُّفه لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هديرًا.
لكن ينبغي أن نتذكّر، أن الموسيقى هي جوهر الغنائية.هذه الموسيقى التي حوّلت قصائد وازن إلى ضرب من الإيقاع الدالّ أو الدلالة الموقّعة. الموسيقى في الشعر، تشتبك، كما أوضح ميشونيك، مع الذات والمعنى في آن؛ "لم يعد من الممكن للإيقاع أن يكون ابتداءً من مقولة فرعيّة للشكل، إنّه تنظيم للخطاب وتجلّ له في آن... وبما أنّ الخطاب غير منفصل عن معناه، فإنّ الإيقاع غير منفصل عن معنى هذا الإيقاع. إنّ الإيقاع تنظيم للمعنى داخل الخطاب... وإذا كان تنظيمًا للمعنى فهو ليس مستوى منفصلًا متجاوزًا... فالمعنى يتكوّن داخل الخطاب وبواسطة جميع عناصر الخطاب".
إنّ الإيقاع بوصفه تنظيمًا للذات في خطابها، يتجلّى على نحو واضح في قصائد عبده، إذ فيها تحوّل الإيقاع إلى دالّ أكبر يقول بموسيقاه ما تقوله الكلمات بصورها فكان بسبب ذلك، من العناصر التي ساهمت في خلق هذه النبرة الغنائية التي وسمت شعر وازن. الإيقاع هنا يتجاوز العروض والأوزان والقوافي، إنّه عنصر مكين من عناصر اللغة أي إنّه عنصر مكين من عناصر الخطاب: "صفحة طويتها / تليها صفحة أطويها/ إنّها الأيام تنقلب إلى الوراء/ مثلما تسقط شجرة من ثمرة/ مثلما تشرق شمس من قطرة ضوء/ مثلما ينبجس بحر من صدفة".
هذه القصيدة التي تنظر "إلى الوراء"، استخدمت عناصر إيقاعية كثيرة، فوظفت التكرار واللازمة والتشاكل الصوتي والتجانس التركيبي، مستنفرةً طاقات اللغة الموسيقية من أجل الإفصاح عن التجربة. لقد ظلّ حلم كلّ الفنون الاقتراب من الموسيقى، لتكون مثلها فنّا خالصًا، دالًا دون مدلول، مرجعها داخلها وليس خارجًا عنها. وقصيدة وازن تنهض دليلًا على ذلك؛ فالموسيقى فيها باتت دالًا رئيسًا يشدّ الانتباه إليه قبل أن يشدّه إلى شيء خارجه. قصيدة لا تقول بل تغنّي، وتحوّل التجربة إلى أنغام وإيقاعات.
بيد أن وازن يلاعب الوزن باعتباره لفظًا، ضمن قصيدة نثر (وفق النموذج الفرنسي البودليري أيضًا) في قصيدة "مجنون": "كأنني مجنونك وليتني أعرف كيف أنظم لك قصيدة بالوزن والقافية لأنثرها سرًّا في ليل شعرك الذي تشعله النجوم".
لا تكمن أهمية قصيدة عبده وازن في الأسئلة الوجوديّة والروحيّة التي تتضمّنها فحسب، بل في ما تنطوي عليه من إمكانات دلالية واحتمالات تأويليّة. إذ هي لا تحتوي على معان "جاهزة" يمكن للمتقبّل أن يظفر بها، لكنها تحتوي على جملة من الإشارات والرموز والاستعارات التي تستدعي القراءة وإعادة القراءة. قراءة لن تكون، في كلّ الأحوال، نهائيّة، لأنّها تظلّ مجرّد احتمال تأويلي تعقبه، بالضرورة، احتمالات تأويليّة أخرى. فهي أفق مفتوح على تعدّد المعاني، وهذا التعدّد هو الذي يتيح لها التجدّد مع كلّ قراءة، والتناسخ مع كلّ تأويل.


المساهمون