عائد إلى يافا

18 سبتمبر 2019
إبراهيم هزيمة/ فلسطين
+ الخط -

قبل عدّة أيام، بينما كنت أعمل على حاسوبي، لفتني جدل مُحتدم بين والدتي وشقيقي الأصغر، لأجِدُني مُقحَماً بدون مقدمات "أخوك كلما شاف غير العرب خلال رحلتنا ليافا كان ينكّد، شو رأيك؟"، شو رأيي! أغمضت عينَي لثانِيَتيْن، وهززت رأسي مُبتسماً، وبدوت خالي الذهن.

يااه... يافا، مدينة البحر، بلد "الحكايات والأسرار"، وبلد الهجرة الأولى لعائلتي هرباً من المجازر وبشاعة دم البرتقال المسفوح في الشوارع، أو هي ذاك "الجمال الذي تمت خيانته".

حقيقةً، استوقفني "المشهد" وخرجت بعدها مع هذا الرجل الصغير، في جولة مسائية بمدينة بيت لحم، ورحت أسأله بدهشة الأطفال عن سِرّ نكده، ليجيب بنبرة حاسمة بعد أن عقد جبينه، هم احتلونا، وأخذوا أرضنا، ويجب أن يدركوا أننا ما زلنا نرفض ما فعلوه بأرضنا، أعدت عليه السؤال، فردّ بنبرة مقهورة، لو شاهدت فقط! مقتني مشهد بعض "العرب" يلوّحون بأيديهم بالسلام ضاحكين لحافلة تقل مستوطنين، فأدركت أنه أراد ألا يبدو مثلهم.

رجُليَ الصغير أيضاً يشعر بِيُتم المكان مثلي، فأصول عائلتنا تعود إلى مدينة البرتقال والبحر، وبعد النكبة، أعيش العشرينيات من عمري، لم أرَ بحراً قط، ولم أملك أرضاً لأزرعها برتقالاً قط. وعندما تمتلئ بالحنين، تكفي كلمةٌ واحدة، لتسيل الذاكرة كلّها، كذلك الذكريات التي لم نعشها، وربما كان لذلك ارتباط عندما علمت بإصدار كتاب يحمل اسم "يافا.. دمٌ على حجر" للباحث بلال شلش، دوّنت الاسم على قائمة الكتب التي سأقرأها فوراً، ليمطرني فضولي: هل سأقرأ في ذاكرة يافا، أم في ذاكرة الدم، أم الحجر؟

وعلى السيرة، تقول الرواية الشفوية المتناقَلة عن أصل عائلتي "نجم" إنها من اللّد؛ ولكن لظرفٍ ما انتقل فارس (والدُ جدي) للعمل والعيش في حيّ المنشيّة، ويُقال إن يده كانت خضراء في الزراعة، ومع وقع أحداث المعارك عام 1948، عاد إلى اللِّد حمايةً لأُسرته، إلا أن العصابات الصهيونية المسلحة، كمنت له واحتجزته ومَن معه من شبّان العائلة والمقربين داخل مسجد لُفّ بالألغام بنية تفجيره، ولكن مشيئة الله أرادت أن انشغلت القوة العسكرية بتقدّم إحدى فرق الجيوش العربية في منطقة قريبة، ليهرب جدنا الأكبر ومن معه، ويبدأ مسلسل الهجرة والمعاناة الأبدية، تزامناً مع هجرةِ مُكوِّني الثاني -عائلة أٌمي- من مجدل يافا.

جلسنا على درج كنيسة المهد، وكان مسجد عمر بن الخطاب المقابل للكنيسة قد أنهى أذان العِشاء، عندما طلبت منه أن يحدّثني عن يافا، لينطلق بالوصف مع تعابير وجهه المليئة بالدهشة: "بتجنن" كل شيء فيها ساحر. سألته عن البحر، هل يختلف كثيراً عن الصور؟ نفى لي منطقية السؤال، فلا وجه مقارنة، البحر وهواؤه، ورمله، والأفق المفتوح والأمواج التي تداعب الأقدام، وأكثر من ذلك كله، يُختصر بهذه الكلمة الجامدة "بحر" تخيّل! ورغم فرحه بهذه الزيارة لأمّنا التاريخية (يافا) إلا أن الغصّة كانت رفيقته، لقد سُرقت منّا، ومشهد العُراة الأغراب على الشاطئ لا يزال يجرح، وهنا يشاطرنا صديقنا الشهيد غسان كنفاني غصّتنا وحزننا بنصّه "أنتِ لا ترينها، إنهم يُرونها لكِ" وأُحرّف في اسم الرواية بالقول "عائد إلى يافا" ولكلٍ أن يحرفها على اسم مدينته وبلدته، فذلك فأل خيرٍ فيه يقين، بألا يُروها لنا، بل نراها بفعلنا.

وفي نهاية ذلك المشوار الذي انقلبَتْ فيه الأدوار فأصبحتُ فيه كالطفل المُنصت وهو الفيلسوف المُجرِّب، أفصح لي عن شعورٍ غريب اجتاحه لحظة تحرُّك الحافلة للرجوع من العودة المؤقتة، عندما بدا البحر من النافذة الخلفية يركض إلى الخلف، شعور تملَّكه بأن يقفز من الحافلة ويعود إلى الرمل.

أعادني ذلك 12 عاماً إلى الوراء، خلال زيارتي الثانية للمسجد الأقصى وأنا على قيد الوعي، أتذكر وقتها كيف كنت مندهشاً بسحر المكان، لم أتصور سوى بضع صور وخبأت الكاميرا غارقاً في حالة حزن مفاجئ، وعندما سألتني شقيقتي وقتها عن إهداري فرصة الوصول بالتصوّر أكثر، كان جوابي أني شعرت بأني "سائح" في قدسنا، ولماذا ألتقط صوراً للذكرى؟ ألن أعود؟!

هو ذاته الشعور الذي حدّثني عنه أشقاءٌ وأصدقاءٌ آخرون قد فقدوا فيه من مشاعر الفرح أكثر مما كسبوا، إذن هي لعنة الاحتلال الذي لا يزول الحزن إلا بزواله.


* صحافي من فلسطين

المساهمون